هل هويتنا فعلا سورية؟!
كتبت سورية لجأت إلى المهجر تقول: إن تسعة من عشرة سوريين هاجروا خلال الحرب لا رغبة لديهم بالعودة إلى سوريا بعد أن تضع الحرب أوزارها..
سيهز بعض القراء رؤوسهم أسفا بعد قراءة هذه الافتتاحية، في حين سيستنكر البعض الآخر ويعتبرون أن في الرقم مبالغة، وسيوافق آخرون ممن يرون أن لا فائدة ترجى من العودة..
والواقع أن الفكرة بحد ذاتها تطرح قضية شائكة وغاية في التعقيد ظهرت خلال هذه الأزمة الخطيرة التي زلزلت البلاد.. والحديث هنا لا يتعلق بثلاثة ملايين ومئتي ألف لاجئ مسجلين رسميا في وثائق المفوضية العليا للاجئين التابعة لهيئة الأمم المتحدة، والتي بالمناسبة تقول هذا الشهر إن احتياجاتها لهؤلاء اللاجئين الموزعين في تركيا ولبنان والأردن والعراق ومصر تتجاوز ثلاثة مليارات وسبعمئة مليون دولار؛ بل يتعلق بآخرين هاجروا سواء بتأشيرات نظامية أو تهريبا إلى بلاد أوروبية مختلفة، أو إلى كندا وأستراليا.. هؤلاء، وكثير منهم ينتمي إلى شريحة عمرية شابة، لن تكون سوريا بالنسبة إليه أكثر من ذكرى منزل قضى فيه طفولته أو مدرسة تعلم فيها وما يحيط بها.. لن تكون أكثر من عدة شوارع كان الشاب يجوبها بصحبة أقرانه أو أهله، أما الباقي فصور كئيبة ومزعجة، لا تبدأ من منظر شرطي المرور وهو يضع ورقة الخمسين في جيبه مقابل التغاضي عن مخالفة مرورية ولا تنتهي عند مخالفات البناء الكبيرة التي تتكاثر لمصلحة مجموعة من زعماء وتجار ومافيات السوق الاقتصادي المتعاونين مع الطغمة الحاكمة..
من هنا نغوص أكثر إلى أعماق المشكلة المتجذرة في نفس المواطن السوري.. هذه المشكلة التي تنخر فيها أزمة الهوية..
هوية السوري الضائعة تعود للصدمات الشديدة والسريعة التي تلقاها خلال فترة قصيرة من الزمن لم تتعد مئة عام.. ففي بداية القرن العشرين لم يكن هناك بلد اسمه سوريا، كانت بلاد الشام أو منطقة الهلال الخصيب أو شمال شبه الجزيرة العربية، وجميعها تسميات صحيحة، منطقة تناوبت عليها الحضارات على مدى التاريخ، فحملت طابع كل حضارة في وقتها، ثم صارت إسلامية تتبع الخلافة الأموية والعباسية والعثمانية بغض النظر عن ضعف كثير من الخلفاء أو التفكك في بعض المراحل، إلا أن السمة الرئيسية كانت دائما تحمل طابع راية خلافة تحكم باسم الدين الإسلامي.. في بداية القرن العشرين عندما لاحت بوادر انهيار الخلافة العثمانية مع اندلاع الحرب العالمية الأولى، ومع ظهور حركات القوميات المختلفة، بدأت النار تتأجج في جمر ملتهب كان يرقد تحت سطح التطور الزمني، وبدأت المجتمعات تشهد تفككا عميقا وإن كان غير مرئي للعيان على السطح، وبدأ النزيف البشري يرسم خطوطه الأولى..
في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين بدأت موجات الهجرة القريبة إلى مصر والبعيدة إلى العالم الجديد المتمثل في أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية بسبب الإقطاع المحلي والمجاعة والفقر وأسباب سياسية أخرى، يذكر منهم على سبيل المثال إيليا أبو ماضي وميخائيل نعيمة إلى أمريكا وأبو خليل القباني وأنور وجدي وماري منيب إلى مصر..
وبحسب دراسة قام بها الباحث محمد باروت حول المغتربين السوريين فإن الهجرة توقفت عند بداية الانتداب الفرنسي وارتفعت نسبتها أواخر سبعينيات وأوائل ثمانينيات القرن الماضي على خلفية الأزمة التي مرت بها سوريا.. ثم انخفضت نسبة الهجرة إلى شخص لكل ثلاثمئة حتى دفعت أحداث الثورة الأخيرة الملايين إما للنزوح أو للجوء أو للهجرة..
خلال هذه الأعوام الطويلة واجهت السوري باستمرار أزمة الهوية.. ففي بداية القرن العشرين كان كثير من المهاجرين يدينون بالمسيحية باعتبار أن مسيحيي سوريا من أوائل من تبنوا القومية العروبية ودعوا للانفصال عن العثمانيين والخلافة الإسلامية الضعيفة التي كانت تحكم في ذلك الوقت.. وقد جوبه دعاة القومية العربية بحرب من ولاة الأتراك التابعين لحكومة كانت اسميا تتبع للخلافة وفعليا تتبع لأحزاب خرجت عن خط الامبراطورية العثمانية التقليدي وهي حزب تركيا الفتاة وحزب الاتحاد والترقي..
بعد قيام الثورة العربية الكبرى وخضوع المنطقة للاحتلال والانتداب وتقسيمها وفقا لخريطة سايكس بيكو ومؤتمر سان ريمو، توحد السوريون تحت مظلة الكفاح ضد الاستعمار، لكن حقيقة مشاعر الشعب الحقيقية رغم أنها لم تتكشف وفقا لدراسات علمية يمكن أن تظهر من خلال ما توارثته الأجيال في أفكارها، حيث كانت الأمور تشير بوضوح إلى انقسام في ولاء السوريين بين من لا يزال يحن إلى راية خلافة إسلامية، وبين من يحلم بالتخلص من الاستعمار لمحو الخطوط الوهمية المرسومة على خريطة سايكس بيكو عربيا، وبين قلة تنسجم مع الوجود الفرنسي وتعتبره فرصة للخروج من تخلف طال أمده بهدف تكريس الثقافة الغربية والآداب والعلوم والدخول في عصر النهضة الأوروبي الذي سبق البلاد العربية بقرون..
تاريخيا، فقد سكنت سوريا شعوب سامية، ثم بدأت القبائل الكردية بالاستقرار في العصر العباسي، تلا ذلك وفود قبائل تركمانية من السلاجقة، ثم بعض الشركس اللاجئين من القوقاز إبان الحرب الروسية الشركسية.. كما هاجرت إلى سوريا شعوب أرمنية هربت من المذابح في بلادها، واستقرت فيها مجموعات بلقانية وألبانية كانت تحارب في الفرق العسكرية العثمانية واتخذت منها موطنا.. هذه التركيبة السكانية جعلت كثيرا من السوريين ينسبون أنفسهم إلى الدين أو الطائفة أو العرق قبل أن ينسبوا أنفسهم إلى الدولة، وهذا ما جعلها تحتاج إلى حكم رشيد كي يضمها في بوتقة تقلل من التباين بين هذه الشعوب..
وربما يكون تصوير دراما “باب الحارة” ليس مبالغة عندما يبدو أهل الحارة داخل المدينة منغلقين على بعضهم البعض تجاه حارات أخرى لا يعرفون عن طباع ساكنيها أو طريقة تعاملهم الكثير..
حاول رواد الاستقلال الخروج من تناقض هذه المشاعر عبر حكم برلماني تعددي وديمقراطي، لكن لم يكد السوريون ينتعشون باستقلال بلادهم إلا وجاءت صدمة سقوط فلسطين وإعلان قيام دولة إسرائيل لتهز أركان وجود الدولة من أساسه، ثم تلاحقت الانقلابات العسكرية والاضطرابات في البلاد حتى جاء انقلاب البعث عام 1963 الذي انبثق منه تسلم حافظ الأسد السلطة عام 1971 وتوريثه الحكم إلى ابنه بشار..
أعوام خمسون فشلت خلالها عدة محاولات لقلب هذا الحكم الديكتاتوري فدفعت باليأس للتسلل إلى نفوس نسبة كبيرة من السكان وهكذا بدأ النزيف البشري من البلاد والتسرب شيئا فشيئا إلى الخارج..
أغلب المهاجرين بعد حصولهم على جنسية بلد الإقامة لم يستقروا هناك فحسب، بل رفضوا تسجيل أبنائهم في سوريا أولا كي لا يتم استدعاؤهم للجندية وثانيا لسهولة الحركة والدراسة والعمل بالجواز الغربي، وبالتالي فإن الأجيال الثانية بعد الهجرة نشأت غير مرتبطة بسوريا إلا اسميا كبلد الأصل التي جاء منها الأب أو الأبوان، وهكذا فإن هذه الأجيال لم تعد تعتبر سوريا وطنها..
أما من عانوا من الديكتاتورية والظلم والفساد والخوف من الاعتقال أو الاعتقال ذاته تحت حكم البعث فلم تعد سوريا تشكل بالنسبة لهم الوطن الأسمى أو الحلم الذي يريدون أن يقضوا عمرهم ومشيبهم فيه، ولم يعد الوطن يعني لهم أرض الجذور، بل صار يعني الاستقرار وفرصة عمل كريم وكرامة إنسانية وتعليما بمستوى جيد لأبنائهم وحرية الفكر والكلمة..
حكم البعث والأسد شغل السوري بقضايا العالم بأسره: الامبريالية، الصهيونية، فلسطين، لبنان، مصر السادات، العراق، لواء اسكندرون، الجولان السليب.. الخ إلا قضيته السورية.. ولم يشعر المواطن السوري يوما تحت هذا الحكم المخابراتي بأي اهتمام لما يجري في الداخل، أو قدرة على المحاكمة الفعلية لما يحدث، وذلك في ظل إعلام مغيب ولغة سياسية متخشبة..
هم الفرد الأكبر بات في تأمين رغيف الخبز وأجرة المنزل وغذاء الطفل ومتطلبات الحياة وفرص العمل التي توفر الحد الأدنى من المعيشة العادية.. إضافة إلى البحث عن الطرق الملتوية في تحقيق الأغراض الشخصية من خلال تقديم الرشى والوساطة والنصب والاحتيال والتسلق والطعن في الآخرين من أجل اقتناص الفرص وسحب البساط من تحت أرجل الآخرين..
خلال أعوام مئة خلت لم يجد السوري هوية حقيقية يتمسك فيها، وهذا هو الفرق بين من يصر على كونه أمريكيا لأن بلاده لم تكن يوما إلا أمريكا، أو ألمانيا لأن بلاده لم تكن يوما إلا ألمانيا، أو بريطانيا أو روسيا أو الصين واليابان وهكذا، وبين من لا يعرف قبل مئة عام ماذا كان اسم بلاده..
في سوريا، إذا قلنا هويتنا إسلامية سيردد البعض بأنهم ليسوا مسلمين، وإذا قلنا هويتنا عروبية سيردد آخرون بأنهم ليسوا عربا، وإذا قلنا سوريون ستعترض مجموعة بأن حدود البلاد مصطنعة ظالمة رسمها شخصان لا يعرفان الروابط الديمغرافية بين أهل حوران سوريا والأردن، أو بين سكان الجزيرة والعراق، أو بين علويي أنطاكية وطرطوس، أو بين كرد الدول الأربع، أو بين دروز سوريا ولبنان الخ.. وهناك من لا يزال يحلم بمشروع انطوان سعادة في سوريا الكبرى ونجمتها قبرص، وهناك من لا يزال يحلم بمشروع نوري السعيد في الهلال الخصيب، وهناك من يريد الانضمام إلى تركيا باعتبار الإقليم الشمالي امتداد لثقافتها وهكذا.. إضافة إلى ذلك فإن جولة سريعة قبل قيام الثورة يمكن أن تعطي فكرة وافية عن فروق ثقافية واسعة بين مناطق الجزيرة وبين حلب وحمص ودمشق والساحل وحوران.. فماذا تبقى من الهوية السورية للتمسك به، وقد عمل النظام الأسدي على مدى أكثر من 40 عاما على طمسها ومحوها وقتلها؟
من هنا، قد يستطيع المرء أن يفهم لماذا يدفع البعض الغالي والنفيس ويستمرون في ركوب البحر رغم المخاطر ويدفعون حيواتهم أثمانا بحثا عن أوطان أخرى.. ولماذا يسارعون عند الوصول إلى تمزيق جوازات سفرهم طمعا في جوازات سفر بلد اللجوء.. ولماذا يقول أحدهم للآخر عندما يستلم هويته الغربية الجديدة كلمة: مبروك.. ولماذا أصبحت سوريا الحالية فارغة من شبابها فاستوطنها بسهولة شبان ليسوا من أهل البلاد الأصليين انضموا إلى أحد فريقين: فريق يرابط قرب مزارات الشيعة وأماكن تجمع أفرع المخابرات والأركان العسكرية، وفريق ملثم يتشح بالسواد ويرعب العباد ينسب نفسه إلى دولة غريبة تسمى الدولة الإسلامية في العراق والشام/داعش..
ميساء آق بيق
No comments:
Post a Comment