Sunday, December 28, 2014

(8)
فساد الحكام وسقوط الاسكندرية 
وانتهاء حكم المماليك البحرية


خلال نحو أربعين عاما هي الفترة بين وفاة السلطان الناصر محمد ((راجع الحلقة 5)) وسقوط دولة المماليك البحرية، استشرى الفساد في البلاط المملوكي والدوائر الحاكمة، وحكم اثنا عشر سلطانا، ثمانية من أولاد الناصر محمد في السنوات العشرين التي تلت وفاته، وأربعة من أحفاده خلال عقدين، أي بمعدل ثلاث سنوات ونصف لحكم كل سلطان..
لم يستطع أحد أن يملأ الفراغ الذي تركه السلطان الناصر، غير أن حكم الأسرة استمر بسبب حب واحترام الناس لعائلة قلاوون، وكانت سنوات بؤس وشقاء، سيطر عليها صراع الاستئثار بالنفوذ والمال بين أمراء المماليك على حساب الاهتمام بشؤون السلطنة، في ظل حكم صوري للسلاطين، وسلطة كبار الأمراء الحقيقية، باستثناء السلطان الناصر حسن بن الناصر محمد الذي حكم مرتين.. 

تولى سيف الدين أبو بكر الحكم بعد والده السلطان الناصر محمد.. كان عمره عشرون عاما ويشتهر بالقسوة والغطرسة، ومنذ ذلك الحين بدأ الانقسام بين المماليك.. تحكم أتابك العسكر قوصون الناصري بالأمور، فخلع سيف الدين ونصب أخاه علاء الدين كجك الذي لقب بالملك الأشرف ولم يكن قد تجاوز الست سنوات من عمره.. قوصون لم يكن محبوبا قط، لم تتوافر فيه شروط المماليك، ولم يشتر في بداية حياته كالباقين، بل حضر إلى السلطان الناصر محمد من تلقاء نفسه في حاشية زوجته المغولية ووهب نفسه للسلطان بمحض إرادته، وهكذا لم تكن له تلك المكانة الاجتماعية التي كانت للمماليك في ذلك الوقت. وانتهى قوصون مقتولا على يد ايدغمش الذي خلع السلطان كجك بعد خمسة أشهر على تنصيبه ونصب الأمير أحمد وعمره 24 عاما ولقبه الملك الناصر.




أحمد الذي لم يرغب في تسلم الحكم أقنعه إخوته وعداوته لقوصون بالموافقة.. وباعتباره كان يهوى الحياة في الكرك عين الأمير آق سنقر نائبا عنه في مصر، فخلت القاهرة من سلطان حاكم وعمت الفوضى وسوء النظام والاضطرابات.. وعندما كتب الأمراء إلى السلطان يرجونه بالعودة أجابهم: "إنني قاعد في موضع أشتهي وأي وقت أردت حضرت إليكم"
فما كان منهم إلا أن خلعوه بعد شهرين واثني عشر يوما من توليه السلطنة ونصبوا أخاه اسماعيل عام 1342 وعمره 17 سنة ولقبوه بالملك الصالح.. عندها ثار أحمد عليه في الكرك، غير أن اسماعيل عاجله بقوة عسكرية حاصرته ثلاث سنوات قاوم خلالها ببسالة ثم استسلم نتيجة نفاذ الأقوات وانفضاض أتباعه عنه، وتم القبض عليه وقتله حيث أرسل رأسه إلى السلطان.

اسماعيل كان مولعا بالنساء، وقد تعلق بجارية سوداء كانت تغني له حتى صارت له أفضل سلوة في آخر أيامه مما صرفه عن إدارة شؤون الدولة، وظهر أثر نفوذ نسائه وحاشيته واضحا وانخفضت إيرادات الدولة. وقد أصاب المرض اسماعيل وتوفي بعد أن حكم ثلاث سنوات وشهرا وثمانية عشر يوما، فتولى الحكم من بعده أخوه شعبان ولقب بالملك الكامل، وهذا الأخير لم يكن أفضل حالا، فكان عابثا ماجنا مستهترا بمصالح الحكم، واشتد الاستياء من حكمه عندما قتل أخاه كجك وقبض على أخويه حاجي وحسين وسجنهما تمهيدا لقتلهما.. وازدادت رذائله حتى وصل التذمر إلى بلاد الشام فثار عليه نائب الشام يلبغا اليحياوي وكتب إليه:
"إنك أفسدت وأفقرت الأمراء والأجناد وقتلت أخاك وقبضت على أكابر أمراء السلطان، واشتغلت عن الملك والتهيت بالنساء وشرب الخمر وصرت تبيع أخباز الأجناد بالفضة"


تدهورت أحوال السلطنة في عهده وانخفض الدخل وتعطل الحج السنوي، وعندما طلب منه الأمراء التخلي عن الحكم هرب الى بيت أمه حيث ألقي القبض عليه وسجن في المكان الذي سجن فيه أخويه.. ولم يلبث أخوه السلطان حاجي أن أمر بقتله بعد ثلاثة أيام فقتل خنقا.

بعد ذلك جرى تنصيب السلطان حاج بن الناصر محمد ولقب بالملك المظفر زين الدين حاجي عام 1346 وكان عمره 11 سنة وأظهر من الخلاعة وفساد الخلق ماجعل عهده أسوأ من عهود أسلافه، وكان يجتمع بأوباش الناس وطبقاتهم المنحطة يلعبون معا في الحمام تاركا شؤون الحكم، كما أنه بذل الأموال لجواريه واختص بواحدة منهم كانت قبله حظية لسلطانين.
وفي عهده عمد الأمير شيخو نائب السلطنة وهو شركسي الأصل على إعلاء شان المماليك الشركسية ما ولد الحقد في نفوس المماليك البحرية، كما ضربت البلاد موجة من القحط والجفاف أهلكت الحرث والنسل بينما كان منغمسا في الملذات، حاول اثنان من المقربين منه تنبيهه إلا أنه بدلا من أن يرتدع قبض عليهما وكاد أن يقتلهما لكنهما تمكنا من الفرار. وانتهى أمره أخيرا بأن قتله الأمراء المعارضون بعد عامين من الحكم. وهكذا جاء السلطان الناصر حسن إلى السلطنة وعمره 11 عاما ولقب بالناصر أبو المحاسن حسن وظل ثلاث سنوات شبه محجور عليه حيث استأثر وزيره منجك اليوسفي بالنفوذ، لكن الطاعون اجتاح البلاد عام 1349 وحصد كثيرا من الناس وتأثرت الحياة الاقتصادية حتى كادت تتوقف تماما وتوقفت الحال بالقاهرة ومصر.

وقد أدى الصراع بين الأمراء إلى القبض على السلطان وسجنه في القلعة ثلاث سنوات قضاها في الدرس والعبادة إلى أن عاد مرة ثانية عام 1354م 755هـ ، وحاول التخلص من الأمراء المتنازعين على النفوذ فاشتبك مماليكه الخاصون مع المماليك المتنفذين في معركة دارت رحاها في شوارع القاهرة وتمكن السلطان بعدها من مباشرة الحكم بنفسه ولكن ليس لفترة طويلة.
ازداد نفوذ الامير يلبغا العمري واعترض على تصرفات السلطان وعلى منحه الإقطاعات الكبيرة للنساء، فحاول السلطان التخلص منه لكن يلبغا اصطدم به وتغلب عليه وولى السلطان هاربا إلى قلعة الجبل، فما كان من يلبغا إلا أن لحق به وقتله واستولى على خزائنه، لينتهي عهد أبناء الناصر محمد ويبدأ عهد أحفاده.




وعلى رغم أن أول الأحفاد صلاح الدين بن السلطان حاجي كان في الرابعة عشرة من عمره عندما نصبه يلبغا سلطانا، إلا أنه انغمس في اللهو والطرب وأدمن على شرب الخمر حتى كاد لايفيق ساعة واحدة.
بعده تولى السلطان شعبان بن حسين بن الملك الناصر (الملك الأشرف أبو المعالي زين الدين) عام 1363 وكان عمره 10 سنوات وظل في الحكم 14 عاما. ونزلت في عهده اسوأ مصيبة يمكن أن تنزل في بلد كان يشبه امبراطورية كبيرة يشار إليها بالبنان.


الفساد والاضطرابات سالفة الذكر التي حلت في مصر أفقدت الدولة لمكانتها وهيبتها فاستخف الأعداء بها وطمع الطامعون في أراضيها.. وهكذا كانت بداية النهاية من قبرص.. 

هناك كان الملوك من آل لوزنيان يتخذون من الجزيرة قاعدة لتهديد السفن والتجارة الإسلامية في شرق المتوسط، وكانوا ينفذون بين الحين والآخر غارات على بعض الموانئ.. كانت قبرص مقرا للأجانب الذين طردوا من الشام وعكا حيث استقروا فيها.. 
في عام 1359م 760هـ اعتلى العرش بطرس الأول لوزنيان واشتهر بقوة شخصيته وحماسته الدينية الفذة.. ومنذ ارتقائه العرش أراد أن يجعل من نفسه بطل المسيحية الأول في عصره ففكر في حملة كبرى يضرب بها المسلمين ضربة قوية. وباعتبار أن مشروعا كهذا يحتاج الى استعدادات ضخمة وأموال طائلة وأعداد كبيرة من المقاتلين، فقد قام برحلة طويلة إلى غرب أوروبا لاستجداء العون.. هذه الرحلة امتدت ثلاثة أعوام بين 1362 و1365.




في ذلك الوقت كانت أوروبا على أعتاب الدخول في عصر النهضة، والناس يبتعدون تدريجيا عن الكنيسة، ولم تعد العصبية الدينية بتلك القوة التي جمعتهم بداية حروب الفرنجة في القرن العاشر، ولهذا لاقى بطرس الأول صعوبة في جمع العتاد الذي أراده، فالعساكر الألمانية أحجمت ولم يأت من نبلاء الفرنسيين والانجليز إلا مجموعة من إيمييه، غير أن عددا كبيرا من صغار الفرسان لبوا نداءه.
اجتمع في البندقية جيش ضخم كان له الأثر الكبير في الحملة، وبعد تردد من الجنويين شاركوا بثلاث سفن وبارك البابا أوربان الخامس الحملة.
حرص ملك قبرص على كتمان وجهة حملته فاحتشدت الجيوش في جزيرة رودس في شهر ذي الحجة عام 766هـ آب اغسطس 1365م وانطلقت الحملة بعد نحو شهرين حيث تألفت من مئة وخمس وستين سفينة أقلت حمولة كاملة من الرجال بلغ عددهم أكثر من ثلاثين ألفا إضافة إلى العتاد والمؤن. وبعث بطرس بنداء إلى مسيحيي بلاد الشام يخبرهم بعودته تمويها لوجهة حملته، ولما وصلت السفن إلى عرض البحر جرى الإعلان بأن الحملة تقصد الاسكندرية في مصر.

كان بطرس يهدف إلى تحضير قاعدة على الساحل لغزو بلاد الشام فيما بعد، واعتقد أن فقدان مصر لثغر دمياط سيجعل حكام البلاد يتنازلون عن بيت المقدس مقابل استرداده، والاسكندرية تفوق في أهميتها ثغر دمياط، كما أن من يستولي على هذه المدينة يستطيع أن يعترض مسير المواصلات بين مصر والعالم الخارجي فيضع البلاد تحت حصار اقتصادي ومن ثم يتوجه إلى القاهرة ويقضي على عاصمة المماليك.
وعلى رغم أن أخبار الحملة طارت مع التجار إلى مصر قبل الهجوم إلا أن أحدا لم يبد اهتماما بهذه الأخبار بل إن يلبغا قال بتبجح: "إن القبرصي أقل وأذل من أن يأتي لمهاجمة الاسكندرية"!

كان نائب الاسكندرية صلاح الدين خليل بن عرام غائبا في رحلة حج، وناب عنه أمير صغير هو جنغرا الذي عرف عنه الضعف والتردد، وكانت حامية المدينة ضئيلة العدد بسبب عدم اهتمام يلبغا بتحصينها رغم إلحاح نائبها، وكان الوقت موسم فيضان النيل، والطريق بين القاهرة والاسكندرية مملوء بالطين لا يصلح لوصول نجدة عسكرية سريعة لإنقاذ المدينة، بل كان على النجدة أن تسلك طريق الصحراء الطويل والشاق.
وهكذا وصلت حملة بطرس في 23 محرم 767هـ التاسع من أكتوبر/تشرين الأول 1365م، وظن السكان في بادئ الامر أن أسطولا تجاريا رسى في مينائهم وسارعوا لعقد الصفقات التجارية، لكنهم فوجئوا بوابل من السهام يضرب بهم، عندها هرع الجميع لأخذ الاحتياطات والاستعدادات وإغلاق الأبواب وشحن القلاع واستُدعي عرب البحيرة للمساعدة في الدفاع عن المدينة لكنهم ولّوا هاربين بعد قليل، فالغزاة كانوا يفوقونهم عددا وعدة وتمكنوا من أن يشقوا طريقا لهم إلى الشاطئ، فتراجع جنغرا مع قواته واحتموا وراء الأسوار ودارت بين الطرفين اشتباكات تركزت في الجانب الغربي من الميناء.
حاول الأعداء اختراق أبواب المدينة من هذه الناحية وفشلوا فاتجهت قواتهم إلى الجانب الشرقي حيث وجدوا ثغرة أهملها الحكام وهي فتحة قناة الخليج التي تصب في البحر من تحت السور في الميناء الشرقية، تسلقوا الحائط من سلمه الداخلي وأشعلوا النار في باب الديوان (الجمرك) المجاور لها. وقد تعذر على الأهالي الانتقال السريع من الغرب إلى الشرق نظرا لوجود بعض الأبراج الحائلة فأسقط في أيديهم وعم الاضطراب داخل صفوفهم. وعندما اعتقد جنغرا أن المدينة سقطت لاذ بالفرار التماسا للنجاة.




ولم يحل منتصف النهار حتى كان الفرنجة داخل المدينة واستمر بعض القتال في الشوارع لكن محاولة رد الأعداء فشلت فأخذ السكان يفرّون بشكل جنوني بينما انقضت عليهم جيوش الأعداء من كل جانب انقضاضا وحشيا، ولم يفرقوا بين مسلم ومسيحي ويهودي فقتلوا وأسروا عددا كبيرا من الرجال والنساء، ونهبوا الحوانيت والدور وأحرقوا الخانات والقصور وخربوا المساجد والزوايا واعتدوا على النساء والفتيات.
"وكانت هذه الواقعة من أشنع مامرّ بالاسكندرية من الحوادث ومنها اختلت أحوالها واتضع أهلها وقلت أموالهم وزالت نعمهم" (المقريزي).

عقد الملك بطرس اجتماعا تشاوريا في محاولة لإعادة الأمن إلى نصابه وكان يرى ضرورة الاستقرار في المدينة لتنفيذ مشروعه، لكن أغلبية من جاءوا معه خالفوه الرأي وأرادوا الانسحاب بسرعة والغنيمة بما سلبوه من المدينة قبل وصول جيش النجدة من القاهرة، إذ كان السكان أحرقوا أبواب المدينة أثناء فرارهم كي لا يستطيع من بداخلها الدفاع عن نفسه، وقد رأى معارضو الملك بطرس أن الزحف نحو القاهرة بات مستحيلا بسبب تدمير الجسر الواقع على القناة الكبيرة الذي يجتازه الطريق إلى القاهرة، كما سمعوا بأنباء عن جيش من المماليك أعده السلطان لاستعادة الاسكندرية فرفضوا الاشتباك مع هذا الجيش وهم غير مهيئين لذلك.
وكان السلطان شعبان خرج على رأس جيش كبير مع الأتابك يلبغا وقبل وصوله أرسل طليعة عسكرية سريعة بقيادة ثلاثة من الأمراء هم قطلوبغا المنصوري وكوندك وخليل بن قوصون لنجدة المدينة، فانسحب الملك بطرس الأول وجميع مرافقيه بعد أسبوع كامل من دخولهم الاسكندرية.

كانت الخلافات الداخلية والفساد والنزاع على السلطة مفتاحا لتجرؤ الأعداء على الغزو والقتل والسلب والنهب، غير أن الظروف التي أحاطت بالسلطنة لم تمنع أهلها من تجهيز جيش ضخم خاف الغزاة منه وولوا هاربين قبل وصوله. كانت القوة العسكرية هي التي أظلت البلاد بهيبتها أمام الآخرين، وكلما تنازل أهل البلاد عن قوتهم واستعداداتهم العسكرية كلما كانوا لقمة سائغة لكل من تسول له نفسه في استغلالهم والسيطرة عليهم.

Friday, December 26, 2014

رحلة اللجوء ومتاعبها


يتزايد عدد السوريين الذين يحاولون بشتى الطرق اللجوء إلى دول الاتحاد الأوروبي بهدف الحصل على حياة كريمة وآمنة.. غير أن كثيرا منهم لا يملكون أدنى فكرة عما سيواجهونه أو كيف سيتعاملون مع ظروف اللجوء..
قالت إحدى الهاربات إلى ألمانيا: "لم أكن أعرف أن الوضع سيكون هكذا.. كل ما كنت أراه أن البعض يقولون فجأة وصلنا إلى البلد الفلاني ثم يختفون فترة من الزمن ويعودون ليقولوا: كل شيء على ما يرام وقد بدأنا بالاستقرار"..
الواقع أن هناك تفاصيل كثيرة يجب أن يعرفها الراغبون في الهجرة، فقد ازدهر تهريب البشر إلى درجة جعلت كثيرين يزعمون أنهم مهربون كي يحصلوا على مبالغ مالية يجمعون من ورائها ثروة..

غالبا ما يكون طريق الهروب هو عبر تركيا، وأحيانا مدينة الاسكندرية في مصر.. هناك عشرات وربما مئات من أشخاص يزعمون أنهم قادرون على توفير وسيلة تسلل إلى الاتحاد الأوروبي عبر اليونان، لديهم معلومات وفيرة حصلوا عليها عن طريق الاطلاع أو الحديث إلى مهاجرين وصلوا فعلا إلى وجهاتهم.. وسائل التهريب تتم عبر طرق مختلفة تتراوح أسعارها، فهناك من يحملون الراغبين في قوارب منها البدائي ومنها المتطور قليلا، ينطلقون من مدينة ساحلية تركية عبر البحار إلى أول نقطة يونانية.. قبل الوصول إلى هذه النقطة يمرون عبر سواقي مائية ضيقة تأخذ شكل المستنقعات الموحلة المتعرجة وغير واضحة المعالم.. وباعتبار أن التهريب يتم في الظلام وأن العديد من هؤلاء المهربين غير متمرسين ولا يعرفون المنطقة جيدا، كثيرا ما يتيهون في المجهول..

ذكر أحد من خاضوا هذه التجربة أن قائد سفينتهم فقد القدرة على تبين ملامح طريقه، ولولا أن اللاجئ السوري كان يحمل هاتفا جوالا بخدمة الانترنت و"الجي بي إس" (نظام تحديد المكان عبر الأقمار الصناعية) لما تمكنوا من الوصول إلى البر، وذلك بعد رحلة استغرقت أكثر من 10 ساعات.. وأضاف إن مجموعة قطعت نفس الدرب ولم يكن معها "جي بي إس" بقي أفرادها ضائعين أربعة أيام ومنهم من مات إرهاقا وجوعا.. 
من يتم القبض عليه في هذه النقطة اليونانية يعيدونه إلى تركيا، ومن يتمكن من الوصول إلى العاصمة أثينا يكون قد حصل عبر المهربين على جواز سفر مزور يعود لأي شخص يشبه حامل الجواز كي يستخدمه في السفر إلى مدينة أوروبية أخرى.. كثيرون يكتشفهم ضباط الجوازات فيعودون أدراجهم للحصول على جواز سفر آخر إلى أن يصلوا إلى الوجهة التي يريدون..
وهناك من يحصل على جواز السفر في تركيا فيسافر بواسطته إلى الجزائر، لا أدري لماذا الجزائر تحديدا، ربما يكون هناك من يتعاون هناك مقابل مبالغ مالية فيغض الطرف عما يحدث، ومن ثم يسافر اللاجئ إلى مقصده.. غير أن هذه الطريقة هي الأكثر كلفة.. وهناك من يسافر من مصر ويعبر البحر من الاسكندرية إلى جنوب إيطاليا، ولا أدري كيف تغفل الشرطة والمخابرات المصرية عن هؤلاء، ولكن من يدري، ربما يكون هناك مستفيدون أيضا ضمن هذا المجال..

http://www.youtube.com/watch?v=tECcMzZwxwY&feature=youtu.be

من يتمكن من الوصول إلى الشواطئ الاوروبية من دون أن يبتلعه البحر يبدأ بالسفر بوسيلة أو أخرى، سيرا عبر البراري مسافات طويلة أو بواسطة القطارات وغيرها.. يختار الغالبية بلادا في الشمال: السويد، النرويج، ألمانيا، هولندا.... وعندما يطلبون اللجوء يتم فرزهم إلى معسكرات جماعية تضم أعدادا من لاجئين قادمين من دول عديدة، كالصومال وأريتريا، وقد يقيم الشخص في غرفة من 4 أو 5 غرباء من بيئات مختلفة، قد يكونون غير نظيفين أو فوضويين أو كثيري الضجيج..
يقول أحدهم إن الغرفة التي منحت لهم للنوم والإقامة في الفترة الموقتة ريثما يتم البت في أوراق لجوئهم كانت قذرة وسيئة الرائحة، وكانت الأسرّة متسخة علقت فيها بقع مختلفة وتنبعث منها روائح كريهة.. كان على مستخدمي هذه الغرف تقبل الأمر الواقع والتحمل ريثما تقوم السلطات بفرزهم إلى مناطق أخرى في البلاد..
بعد الانتظار فترة تتراوح بين أسبوعين و4 أسابيع يتم نقل المهاجرين إلى أماكن أكثر استقرارا، مهيئة لإقامة اللاجئين، لكن وضع الغرف يصبح أفضل قليلا.. من هنا على اللاجئ انتظار استدعائه للتحقيق، وبناء على إفادته يقرر القاضي أو المسؤول فيما إذا كان هذا الشخص يستحق الحصول على الإقامة والمعونات المالية التي ستقدمها الحكومة..
هناك أنواع للجوء.. كثيرون يعتقدون أنهم حصلوا على لجوء سياسي في أوروبا، لكن الواقع هو غير ذلك.. فشروط الحصول على اللجوء السياسي صعبة ومحددة، واللاجئ السياسي غالبا ما يوضع تحت المراقبة ويمنع من العمل في الفترات الأولى.. اللجوء السياسي يتطلب أن يكون الشخص منتسبا إلى حزب سياسي معارض ومحظور في بلاده، أو أن يكون له رؤى سياسية قوية مختلفة عن الحكومة الهارب منها، هذه الرؤية والتصريحات السياسية تجعله مطاردا من الأمن في بلاده الأصلية وتضع حياته تحت خطر الموت..

أغلب الهاربين من سوريا يحصلون على لجوء إنساني، بمعنى أن دولة مثل ألمانيا مثلا تحتويهم خلال الفترة التي تكون فيها بلادهم في حالة حرب وانعدام الأمان وعدم الاستقرار وخطورة على الحياة.. في هذه الحالة من حق الدولة عندما تنتهي الحرب في البلد الأصلي أن تعيد من تشاء إلى بلاده وتنهي إقامة اللاجئ باعتبار أن أسباب اللجوء لم تعد قائمة.. وقد سبق لألمانيا أن أعادت آلافا لجأوا من البوسنة والهرسك بعد أن انتهت الحرب فيها..

بعد أن يتمكن اللاجئ من العثور على سكن تحدد السلطات مساحته وقيمة أجرته، يبدأ في محاولة التفاعل مع المجتمع الجديد.. في ألمانيا وغيرها يتحتم على اللاجئ تعلم لغة البلاد التي تؤويه، وهذه أولوية.. ثم تأتي مسألة التعود على الطقس المختلف والبارد في أغلب الأحيان، وكثيرا ما أصيب القادمون بأمراض متعلقة بنزلات البرد وتوابعها.. كما يبدأ اللاجئ بالبحث عن المحلات التي يستطيع أن يشتري طعامه منها، وكيف سيفهم أي نوع من الطعام يحتوي على لحم خنزير محرم في الإسلام مثلا أو الكحول وغير ذلك..

خلال هذه الفترة يعاني اللاجئون من الضياع وعدم القدرة على التفاهم مع محيطهم، ويحتاجون إلى مترجم لا يكون متوفرا كل الوقت.. إضافة إلى ضرورة التعرف على الأسلوب الأمثل في التعامل مع شعب الدولة المضيفة باختلاف عقلياتهم وعاداتهم.. وكلما أسرع اللاجئ في التعرف على عادات البلد المضيف وأظهر احتراما لها كلما لقي احتراما من قبل موظفي الحكومة الذين ينظمون أموره.. ولهذا من المهم جدا لأي شخص يود اللجوء إلى دولة ما، أن يطلع قدر الإمكان قبل سفره على طريقة الحياة هناك، إما عبر سؤال أشخاص يقيمون فيها منذ فترة، أو عبر البحث في الانترنت، أو عبر سرعة الدخول في مدرسة اللغة التي تعطي فكرة عن طبيعة المجتمع الجديد..

أما الحالمون بالهجرة إلى أمريكا فالوضع هناك يختلف كليا.. إذ ينبغي على المهاجر إذا استطاع الوصول إلى هناك أن يتكفل بنفقاته المالية بشكل كامل إضافة إلى رسوم يدفعها للمحامي الذي يتولى شؤون أوراقه.. الهجرة إلى أمريكا تكلف كثيرا لكن فرص العمل قد تكون أكبر من تلك المتوفرة في أوروبا..

هناك تفاصيل كثيرة قد لا تتسع المساحة لذكرها، لكن تبقى لكل حالة خصوصيتها وظروفها، ويبقى أن يعرف من يسعى للجوء أن إقامته في دولة أوروبية لا تعني بالضرورة أنه يهرب إلى أرض الأحلام، بل هو يبدأ في رحلة معاناة من نوع آخر، ميزتها الوحيدة أنها ليست تحت القصف والتدمير..


Monday, December 22, 2014

هل هويتنا فعلا سورية؟!

كتبت سورية لجأت إلى المهجر تقول: إن تسعة من عشرة سوريين هاجروا خلال الحرب لا رغبة لديهم بالعودة إلى سوريا بعد أن تضع الحرب أوزارها..

سيهز بعض القراء رؤوسهم أسفا بعد قراءة هذه الافتتاحية، في حين سيستنكر البعض الآخر ويعتبرون أن في الرقم مبالغة، وسيوافق آخرون ممن يرون أن لا فائدة ترجى من العودة..

والواقع أن الفكرة بحد ذاتها تطرح قضية شائكة وغاية في التعقيد ظهرت خلال هذه الأزمة الخطيرة التي زلزلت البلاد.. والحديث هنا لا يتعلق بثلاثة ملايين ومئتي ألف لاجئ مسجلين رسميا في وثائق المفوضية العليا للاجئين التابعة لهيئة الأمم المتحدة، والتي بالمناسبة تقول هذا الشهر إن احتياجاتها لهؤلاء اللاجئين الموزعين في تركيا ولبنان والأردن والعراق ومصر تتجاوز ثلاثة مليارات وسبعمئة مليون دولار؛  بل يتعلق بآخرين هاجروا سواء بتأشيرات نظامية أو تهريبا إلى بلاد أوروبية مختلفة، أو إلى كندا وأستراليا.. هؤلاء، وكثير منهم ينتمي إلى شريحة عمرية شابة، لن تكون سوريا بالنسبة إليه أكثر من ذكرى منزل قضى فيه طفولته أو مدرسة تعلم فيها وما يحيط بها.. لن تكون أكثر من عدة شوارع كان الشاب يجوبها بصحبة أقرانه أو أهله، أما الباقي فصور كئيبة ومزعجة، لا تبدأ من منظر شرطي المرور وهو يضع ورقة الخمسين في جيبه مقابل التغاضي عن مخالفة مرورية ولا تنتهي عند مخالفات البناء الكبيرة التي تتكاثر لمصلحة مجموعة من زعماء وتجار ومافيات السوق الاقتصادي المتعاونين مع الطغمة الحاكمة..

من هنا نغوص أكثر إلى أعماق المشكلة المتجذرة في نفس المواطن السوري.. هذه المشكلة التي تنخر فيها أزمة الهوية..

هوية السوري الضائعة تعود للصدمات الشديدة والسريعة التي تلقاها خلال فترة قصيرة من الزمن لم تتعد مئة عام.. ففي بداية القرن العشرين لم يكن هناك بلد اسمه سوريا، كانت بلاد الشام أو منطقة الهلال الخصيب أو شمال شبه الجزيرة العربية، وجميعها تسميات صحيحة، منطقة تناوبت عليها الحضارات على مدى التاريخ، فحملت طابع كل حضارة في وقتها، ثم صارت إسلامية تتبع الخلافة الأموية والعباسية والعثمانية بغض النظر عن ضعف كثير من الخلفاء أو التفكك في بعض المراحل، إلا أن السمة الرئيسية كانت دائما تحمل طابع راية خلافة تحكم باسم الدين الإسلامي.. في بداية القرن العشرين عندما لاحت بوادر انهيار الخلافة العثمانية مع اندلاع الحرب العالمية الأولى، ومع ظهور حركات القوميات المختلفة، بدأت النار تتأجج في جمر ملتهب كان يرقد تحت سطح التطور الزمني، وبدأت المجتمعات تشهد تفككا عميقا وإن كان غير مرئي للعيان على السطح، وبدأ النزيف البشري يرسم خطوطه الأولى..

في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين بدأت موجات الهجرة القريبة إلى مصر والبعيدة إلى العالم الجديد المتمثل في أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية بسبب الإقطاع المحلي والمجاعة والفقر وأسباب سياسية أخرى، يذكر منهم على سبيل المثال إيليا أبو ماضي وميخائيل نعيمة إلى أمريكا وأبو خليل القباني وأنور وجدي وماري منيب إلى مصر..

وبحسب دراسة قام بها الباحث محمد باروت حول المغتربين السوريين فإن الهجرة توقفت عند بداية الانتداب الفرنسي وارتفعت نسبتها أواخر سبعينيات وأوائل ثمانينيات القرن الماضي على خلفية الأزمة التي مرت بها سوريا.. ثم انخفضت نسبة الهجرة إلى شخص لكل ثلاثمئة حتى دفعت أحداث الثورة الأخيرة الملايين إما للنزوح أو للجوء أو للهجرة..

خلال هذه الأعوام الطويلة واجهت السوري باستمرار أزمة الهوية.. ففي بداية القرن العشرين كان كثير من المهاجرين يدينون بالمسيحية باعتبار أن مسيحيي سوريا من أوائل من تبنوا القومية العروبية ودعوا للانفصال عن العثمانيين والخلافة الإسلامية الضعيفة التي كانت تحكم في ذلك الوقت.. وقد جوبه دعاة القومية العربية بحرب من ولاة الأتراك التابعين لحكومة كانت اسميا تتبع للخلافة وفعليا تتبع لأحزاب خرجت عن خط الامبراطورية العثمانية التقليدي وهي حزب تركيا الفتاة وحزب الاتحاد والترقي..

بعد قيام الثورة العربية الكبرى وخضوع المنطقة للاحتلال والانتداب وتقسيمها وفقا لخريطة سايكس بيكو ومؤتمر سان ريمو، توحد السوريون تحت مظلة الكفاح ضد الاستعمار، لكن حقيقة مشاعر الشعب الحقيقية رغم أنها لم تتكشف وفقا لدراسات علمية يمكن أن تظهر من خلال ما توارثته الأجيال في أفكارها، حيث كانت الأمور تشير بوضوح إلى انقسام في ولاء السوريين بين من لا يزال يحن إلى راية خلافة إسلامية، وبين من يحلم بالتخلص من الاستعمار لمحو الخطوط الوهمية المرسومة على خريطة سايكس بيكو عربيا، وبين قلة تنسجم مع الوجود الفرنسي وتعتبره فرصة للخروج من تخلف طال أمده بهدف تكريس الثقافة الغربية والآداب والعلوم والدخول في عصر النهضة الأوروبي الذي سبق البلاد العربية بقرون..

تاريخيا، فقد سكنت سوريا شعوب سامية، ثم بدأت القبائل الكردية بالاستقرار في العصر العباسي، تلا ذلك وفود قبائل تركمانية من السلاجقة، ثم بعض الشركس اللاجئين من القوقاز إبان الحرب الروسية الشركسية.. كما هاجرت إلى سوريا شعوب أرمنية هربت من المذابح في بلادها، واستقرت فيها مجموعات بلقانية وألبانية كانت تحارب في الفرق العسكرية العثمانية واتخذت منها موطنا.. هذه التركيبة السكانية جعلت كثيرا من السوريين ينسبون أنفسهم إلى الدين أو الطائفة أو العرق قبل أن ينسبوا أنفسهم إلى الدولة، وهذا ما جعلها تحتاج إلى حكم رشيد كي يضمها في بوتقة تقلل من التباين بين هذه الشعوب..

وربما يكون تصوير دراما “باب الحارة” ليس مبالغة عندما يبدو أهل الحارة داخل المدينة منغلقين على بعضهم البعض تجاه حارات أخرى لا يعرفون عن طباع ساكنيها أو طريقة تعاملهم الكثير..

حاول رواد الاستقلال الخروج من تناقض هذه المشاعر عبر حكم برلماني تعددي وديمقراطي، لكن لم يكد السوريون ينتعشون باستقلال بلادهم إلا وجاءت صدمة سقوط فلسطين وإعلان قيام دولة إسرائيل لتهز أركان وجود الدولة من أساسه، ثم تلاحقت الانقلابات العسكرية والاضطرابات في البلاد حتى جاء انقلاب البعث عام 1963 الذي انبثق منه تسلم حافظ الأسد السلطة عام 1971 وتوريثه الحكم إلى ابنه بشار..

أعوام خمسون فشلت خلالها عدة محاولات لقلب هذا الحكم الديكتاتوري فدفعت باليأس للتسلل إلى نفوس نسبة كبيرة من السكان وهكذا بدأ النزيف البشري من البلاد والتسرب شيئا فشيئا إلى الخارج..

أغلب المهاجرين بعد حصولهم على جنسية بلد الإقامة لم يستقروا هناك فحسب، بل رفضوا تسجيل أبنائهم في سوريا أولا كي لا يتم استدعاؤهم للجندية وثانيا لسهولة الحركة والدراسة والعمل بالجواز الغربي، وبالتالي فإن الأجيال الثانية بعد الهجرة نشأت غير مرتبطة بسوريا إلا اسميا كبلد الأصل التي جاء منها الأب أو الأبوان، وهكذا فإن هذه الأجيال لم تعد تعتبر سوريا وطنها..

أما من عانوا من الديكتاتورية والظلم والفساد والخوف من الاعتقال أو الاعتقال ذاته تحت حكم البعث فلم تعد سوريا تشكل بالنسبة لهم الوطن الأسمى أو الحلم الذي يريدون أن يقضوا عمرهم ومشيبهم فيه، ولم يعد الوطن يعني لهم أرض الجذور، بل صار يعني الاستقرار وفرصة عمل كريم وكرامة إنسانية وتعليما بمستوى جيد لأبنائهم وحرية الفكر والكلمة..

حكم البعث والأسد شغل السوري بقضايا العالم بأسره: الامبريالية، الصهيونية، فلسطين، لبنان، مصر السادات، العراق، لواء اسكندرون، الجولان السليب.. الخ إلا قضيته السورية.. ولم يشعر المواطن السوري يوما تحت هذا الحكم المخابراتي بأي اهتمام لما يجري في الداخل، أو قدرة على المحاكمة الفعلية لما يحدث، وذلك في ظل إعلام مغيب ولغة سياسية متخشبة..

هم الفرد الأكبر بات في تأمين رغيف الخبز وأجرة المنزل وغذاء الطفل ومتطلبات الحياة وفرص العمل التي توفر الحد الأدنى من المعيشة العادية.. إضافة إلى البحث عن الطرق الملتوية في تحقيق الأغراض الشخصية من خلال تقديم الرشى والوساطة والنصب والاحتيال والتسلق والطعن في الآخرين من أجل اقتناص الفرص وسحب البساط من تحت أرجل الآخرين..

خلال أعوام مئة خلت لم يجد السوري هوية حقيقية يتمسك فيها، وهذا هو الفرق بين من يصر على كونه أمريكيا لأن بلاده لم تكن يوما إلا أمريكا، أو ألمانيا لأن بلاده لم تكن يوما إلا ألمانيا، أو بريطانيا أو روسيا أو الصين واليابان وهكذا، وبين من لا يعرف قبل مئة عام ماذا كان اسم بلاده..

في سوريا، إذا قلنا هويتنا إسلامية سيردد البعض بأنهم ليسوا مسلمين، وإذا قلنا هويتنا عروبية سيردد آخرون بأنهم ليسوا عربا، وإذا قلنا سوريون ستعترض مجموعة بأن حدود البلاد مصطنعة ظالمة رسمها شخصان لا يعرفان الروابط الديمغرافية بين أهل حوران سوريا والأردن، أو بين سكان الجزيرة والعراق، أو بين علويي أنطاكية وطرطوس، أو بين كرد الدول الأربع، أو بين دروز سوريا ولبنان الخ.. وهناك من لا يزال يحلم بمشروع انطوان سعادة في سوريا الكبرى ونجمتها قبرص، وهناك من لا يزال يحلم بمشروع نوري السعيد في الهلال الخصيب، وهناك من يريد الانضمام إلى تركيا باعتبار الإقليم الشمالي امتداد لثقافتها وهكذا.. إضافة إلى ذلك فإن جولة سريعة قبل قيام الثورة يمكن أن تعطي فكرة وافية عن فروق ثقافية واسعة بين مناطق الجزيرة وبين حلب وحمص ودمشق والساحل وحوران.. فماذا تبقى من الهوية السورية للتمسك به، وقد عمل النظام الأسدي على مدى أكثر من 40 عاما على طمسها ومحوها وقتلها؟

من هنا، قد يستطيع المرء أن يفهم لماذا يدفع البعض الغالي والنفيس ويستمرون في ركوب البحر رغم المخاطر ويدفعون حيواتهم أثمانا بحثا عن أوطان أخرى.. ولماذا يسارعون عند الوصول إلى تمزيق جوازات سفرهم طمعا في جوازات سفر بلد اللجوء.. ولماذا يقول أحدهم للآخر عندما يستلم هويته الغربية الجديدة كلمة: مبروك.. ولماذا أصبحت سوريا الحالية فارغة من شبابها فاستوطنها بسهولة شبان ليسوا من أهل البلاد الأصليين انضموا إلى أحد فريقين: فريق يرابط قرب مزارات الشيعة وأماكن تجمع أفرع المخابرات والأركان العسكرية، وفريق ملثم يتشح بالسواد ويرعب العباد ينسب نفسه إلى دولة غريبة تسمى الدولة الإسلامية في العراق والشام/داعش..


ميساء آق بيق

Tuesday, December 16, 2014

(7)
علاقة السلطان مراد الأول بمنطقة البلقان
والتوسع العثماني فيها


نبدأ من حيث انتهت الحلقة السابقة، في بيزنطة، حيث ذهب الامبراطور الجديد "يوحنا باليالوغ" إلى روما يستجدي العون ويطلب الشفاعة مقابل إدخال شعبه في طاعة البابوية.. أنكر يوحنا الكنيسة الأرثوذكسية أمام مذبح القديس بطرس، لكن الوعود المعطاة لم تنفعه، بل إن البندقية اعتبرته رهينة مقابل الديون اليونانية، فاضطر ابنه عمانويل لإحضار المال المطلوب وعاد يوحنا إلى القسطنطينية فقيرا وقد أنكره شعبه لتنازله عن مذهبه.. وبعد فشله مرة أخرى في الحصول على العون من الغرب لم يجد أمامه إلا الاعتراف بالسلطان مراد مولى عليه مقابل موافقة مساعدة الجيش العثماني له واضعا ابنه عمانويل رهينة لدى العثمانيين، فاتجه مراد حينها إلى الإمارات البلقانية.





وكي نفهم تسلسل الأحداث بين توسع الدولة العثمانية وما جرى في البلقان لا بد أن نلقي الضوء على طبيعة هذه البقعة الجغرافية..
منطقة البلقان كانت دائما محكومة بتركيبها البشري والعرقي والقومي والديني والثقافي بالغ التعقيد.
الشعب السلافي من الصرب والبوسنة، البلغار، الولاش، السكبتار في البانيا، والمجيار الذين شكلوا مع جيرانهم البولنديين مدة ثلاثة قرون حاجزا رئيسيا في وجه التوسع العثماني.
أما تضاريسها الجبلية الوعرة فغالبا ما شكلت ملاذا للأقليات المضطهدة أو الخارجين على السلطة على الرغم من انتماء أغلب قاطنيها إلى الجنس السلافي.

ويعتقد أغلب المؤرخين أن الشعوب السلافية جاءت من أحراج روسيا الباردة هربا من الجوع وبحثا عن أرض خصبة فتحلقوا حول ضفاف نهر "السافا".. حاول الرومان طرد هذه الشعوب المهاجرة دون جدوى، واستقروا هم ورحل الرومان، ولاتزال العديد من القوميات من السلافيين باقية حتى الآن.

البلقان كلمة تركية أصيلة تعني الجبل الوعر المكسو بالغابات، وهي أقصى شبه جزيرة جنوب أوروبا من ناحية الشرق، وتتألف من اليونان والجزء الأوروبي من تركيا وألبانيا وبلغاريا ومعظم يوغوسلافيا قبل أن تتفكك إلى عدة دول عرقية، يحيط بالبلقان البحر الأدرياتيكي في الغرب والبحر المتوسط في الجنوب وبحر ايجة والبحر الاسود في الشرق.
هذه المنطقة الكبيرة شكلت خط تماس وتوتر بين الكنيستين الشرقية الأرثوذكسية والغربية الكاثوليكية، وغالبا ما تنازع فيها أبناء العمومة الصرب والكروات.




كان الصرب الأرثوذكس تحت سيادة الامبراطورية البيزنطية، غير أنهم تمكنوا من إقامة دولة مستقلة في عهد الملك ستيفان نومانيا الذي طرد البيزنطيين عام 1208م.. ومن ثم جعل ستيفان الإقليم مركزا حضاريا ودينيا مسيحيا للصرب فأصبحت المملكة الصربية أول دولة مستقلة في البلقان.
بعد ذلك بلغت قوة الصرب ذروتها في زمن الملك دوشان الذي أعلن نفسه قيصرا عام 1346 وجعل عاصمته مدينة بريتزين غرب بريشتينا عاصمة كوسوفو حاليا.
أعطى دوشان امتيازات كثيرة للكنيسة الصربية ونقل مقرها من "شيج" الى "بييا" (في كوسوفو حاليا) وسعى الصرب المتعصبون إلى فرض الأرثوذكسية بالقوة على الشعوب الواقعة تحت سيطرتهم، واضطهدوا جميع من رفض اعتناقها اضطهادا شديدا خاصة الكوسوفيين في عهد السلطان العثماني أورخان بن عثمان.
لكن خلفاء دوشان كانوا ضعفاء انقسموا على أنفسهم بعد موته، على رغم تحالف قام بين ملك هنغاريا وقيصر بلغاريا عام 1355م. زاد في عوامل الانقسام والفشل محاولة من امبراطور بيزنطة يوحنا الخامس، تظاهر خلالها بقبول وحدة كنسية بين روما وبيزنطة بهدف جلب المساعدات الأوروبية الغربية..

كان المترفون والفسقة والانتهازيون ينخرون في جسم صربيا وهم الذين مهدوا لحكم طاغية صربيا "دوشان" الذي قبض على البلاد بيد من حديد.. هذه القبضة تكسرت بموته، فانهار حاجز الخوف الناجم عن شدة جبروته، وأشرفت دولة الظلم على الانمحاء والهلاك.






كان الوضع سيئا تبدو صورته كالتالي:
اليونان الكاثوليك يمقتون الرومان الكاثوليك، والبنادقة يضغطون على اليونان الكاثوليك ويعملون السيوف في رقابهم في جزيرة كريت.
أما الشعب وصغار القساوسة فقد نفروا من كل محاولة لإعادة توحيد المسيحية اليونانية واللاتينية، وكرهوا الحكام اليونانيين أكثر من الاتراك، وآثر البعض الخضوع للمسلمين الذين لا يفرضون ضرائب على الخضوع للحكام المسيحيين الذين يفرضون ضرائب جائرة.. كان سكان المنطقة المظلومون يرون أن العثمانيين لا يضطهدون باسم الهرطقة، بل ويسمحون بأربع زوجات.. 

وأسقط نزاع سكان ألبانيا بين الرومانيين والكاثوليك في الشمال، والارثوذكس الشرقيين في الجنوب، البلاد فريسة للفوضى والاقطاع.


الحرب الأهلية التي تورط بها الامبراطور البيزنطي عرضت اليونان للهجوم الصربي وتحطمت بلغاريا كقوة كبرى بموت إيفان آسين الثاني ودب الصراع بين قياصرها فاستنجد الشعب بالعثمانيين.

الإسلام انتشر في البلقان في القرن الرابع عشر على أيدي العثمانيين الذين حاولوا التوسع على حساب أراضي بيزنطة.. وكان بعض ممن اعتنقوا الإسلام من المسيحيين أبناء أقليات دينية مضطهدة وجدت في العثمانيين خلاصا من الظلم، وبعض آخر كانوا هاربين من نظام ضرائب جائر تم تطبيقه على المزارعين الفقراء.. لم يُعرف على مر الزمان أن العثمانيين بذلوا جهودا لفرض التحول إلى الإسلام، فقد كانوا أول أمة في ذلك التاريخ تأخذ بمبدأ الحرية الدينية باعتباره الدعامة الأساسية لقيام الدولة، مما جعل المسلم والمسيحي يعيشان معا في وئام في ظل حكمهم.




على مدى الحكم العثماني بلغ عدد المجموعات اللغوية والعرقية التي خضعت له أكثر من ستين مجموعة، فقد كانت الدولة العثمانية هي التنظيم السياسي الوحيد في العصورالوسطى الذي اعترف رسميا بالأديان السماوية الثلاثة وأوجد بينها تعايشا سلميا يشوبه الانسجام. وعلى رغم أن التسامح الديني داخل الدولة كان يعود الفضل فيه إلى الأولياء من المشايخ والدراويش (زوايا الدراويش كان من واجبها إيواء المسافرين سواء داخل المدن أو على طول الطرق) إلا أن هؤلاء الدراويش أنفسهم كانوا يقومون بدور هام في الحض على الجهاد ضد الدولة البيزنطية.
 أما سكان البلقان فلم ينصهروا في البوتقة العثمانية كما حصل في آسيا الصغرى واحتفظوا بلغاتهم المحلية، وهذا كان من العوامل المهمة التي جعلت سيطرة العثمانيين على المنطقة غير دائمة او مستقرة.


كيف نقل العثمانيون حربهم إلى أراضي أعدائهم في البلقان؟

كان لويس ملك المجر وبولندة تحالف مع أمراء البوسنة والصرب وولاشيا للقضاء على الوجود العثماني في أوروبا، منتهزين غياب السلطان مراد في آسيا عام 1364م.. غير أن القائد العثماني (لالا شاهين باشا) تصدى لهم وأوقع بحلفهم هزيمة منكرة في أولى حروب الطرفين وكبدهم خسائر فادحة دفعتهم للتخلي عن ممتلكاتهم في مقدونيا.. حدث ذلك على ضفاف نهر ماريتزا (أو مريج) قرب أدرنة.. 

في الحلقة المقبلة: انتشار الفساد والفرقة والتناحر بين المماليك حكام مصر والشام

هذه السلسلة بدأت أواخر عام 2010 كفكرة لمسلسل درامي تاريخي.. وقد تحدثت بشأنها مع بعض صناع الدراما، كما تحدثت مع الشيخ وليد الابراهيم مالك مجموعة إم بي سي الذي أعجب بها وحولني إلى مدير الإنتاج الدرامي في المجموعة للتنسيق معه، وقمت بتسجيلها قانونيا باسمي.. إلا أن اندلاع الثورات العربية وتلاحق الأحداث وعملي في أخبار العربية حينها شغلني عن المتابعة، إضافة إلى أن الإسقاط التاريخي الواضح في أحداثها على منطقتنا دفعني للانتظار كي أرى نتيجة الثورات.. وبعد أن طال الزمن وخرج مسار الأحداث عن المنطق والخيال ولم يعد ممكنا التنبؤ بالنهاية، قررت نشر السلسلة على مدونتي، لكنها لا تزال تصلح قصة لمسلسل تاريخي ضخم الإنتاج فيما بعد.. يذكر أن هذه الأحداث موثقة تاريخيا وفق عدة مراجع وكتب علمية، ولا يدخل الخيال في تفاصيلها..

حقوق المادة المكتوبة محفوظة

المراجع: تاريخ الدولة العثمانية /تأليف: الميرالاي اسماعيل سرهنك
           أصول التاريخ العثماني/تأليف: أحمد عبد الرحيم مصطفي
            تاريخ الدولة العثمانية/ تأليف: د.علي حسون
          مصر والشام في عصر الأيوبيين والمماليك/ تأليف: د.سعيد عبد الفتاح عاشور
          تاريخ الدولة البيزنطية/ تأليف: د.جوزيف نسيم يوسف
       العثمانيون والبلقان/ تأليف: د. علي حسون
       تاريخ الأيوبيين والمماليك/ تأليف: د. أحمد مختار العبادي
       تاريخ المماليك في مصر وبلاد الشام/ تأليف: د. محمد سهيل طقوش


       مواقع على الانترنت

Tuesday, December 9, 2014

(6)
عهد السلطان مراد الأول 
قائد معركة كوسوفو


ولد مراد الأول خداوندكار (كلمة تعني الحاكم او صاحب السلطة) ابن أورخان عام 1326م وهو العام الذي تولى فيه والده الحكم. كان مراد طويلا بيضوي الوجه ضخم الجسم مفتول العضلات، كثيرا ما يرتدي "السكة" لباس الدراويش المولوية، ويضع عمامة على رأسه.. لباسه بسيط جدا ويفضل الجبة مع اللونين الأحمر والأبيض.
كان دمث الأخلاق لطيفا، عطوفا وعاقلا، يقيم اعتبارا خاصا للعلماء وأصحاب الفنون، ويعامل الفقير والمحروم بإكرام وسخاء، لُقب بالغازي هونكار، وكان محبوبا جدا من شعبه.
أمضى طفولته وفتوته في بورصة حيث درس على يد العلماء في مدراس المدينة، وأمضى كافة سني عمره في الجهاد، في ساحات الوغى أو مناطق الحدود، لكنه على رغم ذلك، وجد الوقت الكافي لإشادة الأبنية العظيمة والنفيسة وأعمال الفنون، وبنى المساجد والمدارس الإسلامية، ومطاعم للفقراء في بورصة.. أسس أول قصر سلطاني في مدينة أدرنة في أوروبا التي أصبحت عاصمة في عهده، حيث توسعت حدود الدولة العثمانية تحت حكمه من مساحة 95 ألف كم مربع إلى مساحة 500 ألف كم مربع


كان مراد سلطانا غازيا وقائدا عسكريا فذا درب جيشا لا يكاد يقهر، خاض بنفسه سبعا وثلاثين معركة كبرى في الأناضول والبلقان وخرج منها منتصرا، وكان دائم المحافظة على وعوده.. عامل الأرثذوكس والكاثوليك وأبناء الديانات الأخرى في الأراضي التي فتحها معاملة أفضل من معاملته لإخوانه في الدين، وهو أول سلطان عثماني قام بحصار القسطنطينية.

عندما حان وقت تسلم مراد للسلطنة وهو في السادسة والثلاثين من عمره، لم يرق ذلك لعلاء الدين أمير دولة القرمان في أنقرة، فحشد قوات الأمراء المستقلين في آسيا الصغرى وعمل على تجميعهم من أجل قتال العثمانيين.. غير أنه فوجئ بجيش مراد يحيط بمدينته أنقرة ويدخلها فاتحا مما اضطره إلى عقد صلح تنازل فيه عن المدينة، فاعترف مراد بالمقابل بعلاء الدين أميرا على بقية أملاك دولة القرمان..



تيمورلنك

في مكان آخر، في خضم الاضطرابات التي أحاطت ببلاد ما وراء النهر والهند ظهرت عبقرية عسكرية جديدة في شخص أمير قبلي صغير هو تيمور ابن توغاي، أحد شيوخ قبيلة برلاس التركية ووالي "كِش" ونواحيها، وهي منطقة قريبة من بحر آرال ونهري سيحون وجيحون وروافدهما.
ولد تيمور عام 1336م 737هـ ، يعود نسبه إلى جنكيز خان في قرية خوجة إيلغار، وهو اسم تركي يعني الحديد، ومن بين ما أُطلق عليه من أسماء اسم تيمور جوركان ومعناه صهر الملك.

نشأ تيمور نشأة لصوصية وعسكرية، بدأ حياته قاطع طريق يسرق الأغنام ويغير على القوافل التجارية، وأصيب أثناء عملية سرقة بسهم في فخذه فصار يعرج من أثر الجرح وهذا ما أضاف إلى اسمه كلمة "لنك" ومعناها الأعرج فبات يعرف منذ ذلك الوقت باسم تيمور لنك.


في مصر، صار الناصر محمد في الخامسة والعشرين عندما تولى الحكم للمرة الثالثة، وبلغت دولة المماليك البحرية في عهده ذروة عظمتها بعد أن نجحت في إرساء قواعد مملكة قوية طردت الفرنجة وهزمت المغول، فازدهرت أحوال العامة.

جانب من مسجد السلطان الناصر

وقد أقام السلطان الناصر محمد كثيرا من الأبنية والمساجد والحمامات والقناطر والترع والقنوات المائية منها مسجده في القلعة، واهتم بالعلم والعلماء..
كان قصير القامة أبيض اللون وفي عينيه حوَل وفي ساقه عرج خفيف يمشي وهو متكئ على عصا أو خادم وذلك بسبب حادث أصابه وهو صغير في الكرك بعدما دخلت شوكة في ساقه. وكان مولعا بالصيد ومغرما باقتناء الخيول الأصيلة والأحجار الكريمة لكنه لم يلبس شيئا من هذه الأحجار، فقد آثر البساطة في مظهره وملبسه.. 
وكان السلطان الناصر محمد شجاعا حازما، محبوبا من رعيته مهيبا من الأمراء حتى إنهم كانوا لا يجسرون على التفوه بكلمة واحدة في حضرته.. له دهاء وكياسة ولاتزعجه الخطوب ثابت الجأش وذو اطلاع واسع، غير أنه كان كثير التخيل والظن والشك ولهذا قتل عددا من الأمراء بعد أن اشتبه في إخلاصهم، وكان يغار على ملكه حتى من أبنائه لدرجة أنه لم يعين وليا للعهد..
عين الأمير سيف الدين بكتمر الجوكندار نائبا، وقلد الأمير شمس الدين قراسنقر المنصوري نيابة الشام، وولى أعوانه الذين آزروه مناصب تضمن له النجاح في سياساته.
في الوقت ذاته أمر محمد بالقبض على بيبرس الجاشنكير فقبض عليه قرب غزة أثناء محاولته الفرار إلى الشام وأحضر إلى مجلسه حيث أنبه وذكره بمواقفه السيئة معه يوم كان يمنع عنه الطعام والمال، ثم أمر بقتله. أما الأمير سلار فقبض عليه وسجن ومات في سجنه.
في أواخر أيامه نفى ابنه الأكبر أحمد إلى الكرك لسوء أخلاقه، ولم يكن ابنه الثاني آنوك أفضل حالا غير أنه توفي في أواخر أيام والده، ولهذا اضطر الناصر إلى تولية ابنه الثالث سيف الدين أبي بكر وتوفي عام 1340

Thursday, December 4, 2014

(5)
ثورة الشعب المصري الأولى في تاريخه
على المماليك 


بعد الانتصار الكاسح الذي حققه الأشرف خليل وقواته في عكا ازداد كبرياؤه وعلوّه على بقية الأمراء الذين خشوا من ازدياد بطشه منذ أن قتل نائبه طرنطاي.. فقامت عداوة بينه وبين نائبه بدر الدين بيدرا نتيجة دسيسة زرعها الأمير شمس الدين بن السلعوس.. حيث أوهم الأخير السلطان بأن أملاك بيدرا اتسعت بشكل يهدد السلطان وحكمه، وزاد في التحريض عليه، فما كان من الأشرف إلا أن انتزع من إقطاعات نائبه وضمها إلى أملاكه.. بيدرا هذا لم يكن صاحب سلوك قويم، فقد عرف بالعبث في أموال الدولة واستيلاء نوابه على متاجر الاسكندرية ووضع أيديهم على كثير من مفاصل الدولة.. وهذا ما جعل السلطان يخشى بأسه وسطوته فيكظم غيظه ويحاول استرضاءه بألف دينار بعثها إليه، لكن محاولته باءت بالفشل، وعادت صورة مأساة السلطان قطز للتكرار.. 




اتفق الأمراء بيدرا وحسام الدين لاجين على قتل السلطان.. وجاءت الفرصة عندما خرج للصيد ونزل في مكان يقال له الحمامات.. عندها سمح لأمرائه بالتوجه إلى القاهرة ريثما يعود من رحلته.. فوجد الأمراء فرصتهم لحبك المؤامرة، وأرسل بيدرا إلى أمراء المماليك الناقمين الذين حضر منهم حسام الدين لاجين المنصوري، وشمس الدين قراسنقر، وسيف الدين بهادر المنصوري وغيرهم.. خرجوا متظاهرين بالرغبة في صيد الغزال في الصحراء وغدروا بالسلطان، فبدأ بيدرا بضربه بالسيف وتبعه الآخرون، كان ذلك يوم السبت 12 محرم 693هـ، ديسمبر/كانون الأول 1293م.. ترك الأمراء السلطان مقتولا في مكانه فبقي جثمانه ملقى على الأرض يومين كاملين، إلى أن حمله الأمير عز الدين ايدمر العجمي (والي تروجه) إلى بيت المال بدار الولاية، ومن ثم نقل الأمير سعد الدين كوجا الناصري تابوته إلى القاهرة ودفنه بمدرسته التي شيدها قرب مشهد السيدة نفيسة..


مشهد السيدة نفيسة


 انتهى حكم السلطان الأشرف خليل بعد أن دام ثلاث سنوات وشهرين غلب على معظمها القوة في الحرب.. ولأنه لم يرزق إلا بابنتين دون ذكور انتقل الحكم إلى أخيه الناصر ناصر الدين محمد بن قلاوون.. وهذا السلطان سيكون لحكمه قصة طويلة، فهو سيولى ثلاث مرات، كل مرة منها تترافق مع أزمات وتعقيدات ومشاكل بين أمراء المماليك، كما سنرى.


أسرة بيت قلاوون تتمتع بأهمية خاصة في تاريخ المماليك.. فمع أنهم لم يؤمنوا بمبدأ وراثة الحكم إلا أن عائلتهم احتفظت بمنصب السلطنة مدة تزيد عن قرن من الزمن.. كان من قدرة قلاوون على إرساء هيبة بيته في النفوس وإحاطة اسمه واسم أسرته بهالة من المجد والعظمة، ما جعل المعاصرين من أهل البلاد يتمسكون بأبنائه وأحفاده من بعده، ويرون في بيت قلاوون رمزا للقوة والعظمة والاستقرار في الداخل والأمن في الخارج.

وُلي السلطنة الناصر ناصر الدين محمد بن قلاوون وكان عمره تسع سنوات.. في وقت كان أمراء المماليك اتفقوا فيه على تعيين الأمير بدر الدين بيدرا سلطانا ولقبوه بالملك الأوحد وحلفوا له.. غير أن مماليك السلطان المغدور الذين تزعمهم زين الدين كتبغا ارتاعوا من بشاعة التآمر على السلطان الراحل فتصدوا للمتآمرين وهزموهم في الطرانة (وهي قرية صغيرة في مديرية البحيرة على الشاطئ الغربي لفرع رشيد) وقتلوا بيدرا نفسه وطاردوا الهاربين من أتباعه.
لكن الأمير علم الدين سنجر الشجاعي وهو النائب في قلعة الجبل اعترض وعرقل عودة كتبغا، فأجريت مفاوضات اتفق الطرفان على أثرها على تعيين الناصر محمد (لقب أيضا الناصر محمد أبي الفتوح) ريثما يتم ترتيب الأمور، فتمكن كتبغا وأتباعه من دخول القاهرة، وتوزع الأمراء المناصب فيما بينهم.. تسلم كتبغا نائب السلطنة، وعين علم الدين سنجر الشجاعي وزيرا رغم أنه لم يسبق لعسكري أن تسلم وظيفة إدارية، كما عين حسام الدين لاجين الرومي الاستادار أتابكا للعساكر.. وحينها بدأ الصراع على النفوذ.. 



دولة المماليك البحرية


جمع كتبغا الأمراء قائلا لهم: "لقد فسدت الأحوال لكون هذا السلطان صغير السن وطمع المماليك في حق الرعية، ومن الرأي أن نولي سلطانا يقمع المماليك عن أفعالهم" وهكذا عزل الناصر محمد وحل محله وتربع على العرش عام 1294م.. وعلم أهل دمشق بما يحدث ولم يمانعوا تطور الامور.
السلطان العادل كتبغا كان مغولي الأصل، تشاءم الناس منه ومن حكمه الذي جاء مصحوبا بانخفاض النيل واشتداد المجاعة وارتفاع الأسعار وانتشار الوباء.. ويقول المؤرخون إن الناس في القاهرة ترددت على ألسنتهم عبارة واحدة يوم جولة ركوب كتبغا بشعار السلطنة وهي "يانهار الشؤم، إن هذا النهار نحس"..
وزاد من كراهية الناس له أنه وفد على مصر في عهده جماعة من بني جنسه من المغول عرفوا باسم العويراتية فرحب بهم السلطان وبالغ في إكرامهم رغم أن معظمهم كانوا وثنيين، وكانت أعدادهم كبيرة قاربت العشرة آلاف فاستثار الترحيب بهم نقمة الاهالي، كما أنه أغضب أمراء الشام غضبا شديدا عليه عندما عزل الأمير عز الدين ايبك الحموي نائب السلطنة بالشام وولى أحد مماليكه مكانه، وكذلك عندما لم يوزع على الأمراء المنح أو الإنعامات أثناء زيارته الأولى إلى دمشق عام 1295م..

صار الباب مفتوحا أمام مزيد من المؤامرات فدبر دبر حسام الدين لاجين خطة لقتل كتبغا أثناء عودته من الشام، لكن الأخير علم بالأمر وأقفل عائدا إلى دمشق، وأعلن لاجين نفسه السلطان المنصور عام 1296م وفرض على كتبغا التنازل عن الحكم والبقاء في دمشق..


لاجين جمع الأمراء وقال لهم:
"أنا واحد منكم، ولا أخيّر نفسي عنكم، ولست موليّا عليكم من مماليكي أحدا، ولا أسمع فيكم كلاما أبدا، ولا يصيبكم ما أصابكم من مماليك العادل، وأنتم خوشداشيتي، ومحل إخوتي"
وأقسم لهم ألا يستبد برأيه في أمر من الأمور بل أن يستشيرهم في مهام الدولة، كما تعهد بألا يقدم مماليكه خاصة منكوتمر على واحد منهم، فصدقه الأمراء وبايعوه.
وكان أول ما فعله أنه عندما وجد محبة الناس قائمة للسلطان محمد الذي كان لا يزال في القلعة أن نفاه إلى الكرك ووعده بإعادته عند بلوغه سن الرشد قائلا بأنه سيتولى الأمور موقتا.

كانت نتيجة حنث لاجين بوعوده أن ازداد الاستياء وتذمر الشعب من حكمه المتعسف فاتفق الامراء وقتلوه وهو يلعب الشطرنج في القلعة عام 1298م ثم قتلوا نائبه بعد قليل، وأعادوا السلطان الناصر إلى العرش ثانية.
لقي السلطان الناصر استقبالا حماسيا رائعا من المماليك وعامة الناس وتفاءل الناس بعودته وأقاموا الزينات في طريقه حتى صعد إلى القلعة وظل يحكم عشر سنوات حتى 1308م في ظل نفوذ قوي للأمراء.. وتنافس في عهده الاستادار الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير (الجاشنكير هو الأمير الذي يتذوق الطعام قبل السلطان خوفا من أن يدس له فيه السم) والأمير سيف الدين سلار نائب السلطنة فلقي نتيجة ذلك الكثير من الإساءة والتضييق المالي.. حدث ذات مرة أن طلب السلطان في إحدى المرات من بيبرس خروفا مشويا وحلوى باللوز فرفض هذا أن يلبي طلبه، وطلب من الأمير سلار الإوز والحلوى فقال لحامل الطلب: "وإيش يعمل السلطان بالإوز؟ هو الأكل عشرين مرة بالنهار؟!".
استبد هذان الأميران بالأمور العامة وضيقا الخناق على السلطان فلم يمكناه من التصرف بأمواله وتدخلا في أبسط أموره الشخصية وقررا له راتبا ضئيلا لم يكن يكفيه للإنفاق على ضرورات الحياة وحجرا عليه وحالا بينه وبين الاتصال بالعامة في وقت نعم الأمراء بثروات طائلة جمعوها من الضرائب والإقطاعات.




في ظل هذه الظروف تولى المغولي غازان الحكم عام 1295 واعتنق الإسلام متحولا من البوذية وأجبر جميع أبناء الديانات الأخرى على الدخول في الإسلام وإلا فالطرد سيكون مصيرهم، وتحول لقب أيلخان فارس إلى خان.
وعادت هجمات المغول على بلاد الشام فلقي المماليك بين حمص وحماه هزيمة قاسية عام 1298، ودخل غازان إلى دمشق وعاث جنوده فيها فسادا وغادرها بعد أن عين له نائبا فيها.. لكن السلطان الناصر قاد جيشا وخرج إليهم في الشام عام 1299 ودخل دمشق ورفض الهدنة، وهو ما أغضب غازان الذي خرج ثانية عام 1302 قاصدا غزو الشام، فما كان من السلطان الناصر محمد إلا أن فرض ضرائب جديدة وحث الأغنياء على التبرع بالمال وطلب من عمال الأقاليم في مصر أن يجمعوا الخيول والرماح والسيوف من سائر الوجهين القبلي والبحري، كما استدعى قوات الاحتياط ممن تركوا الخدمة العسكرية وطلب من نواب الشام التشدد في حماية أملاكهم، فلقي غازان هزيمة قاسية جعلت الناس يزدادون إعجابا بالسلطان الناصر وانتصاره رغم صغر سنه

ومما شهدته البلاد من اضطرابات كذلك، أن العربان انتهزوا فرصة انهماك الحكام في العاصمة وأغاروا على الوجه القبلي وعاثوا فسادا فقطعوا الطرق على التجار وفرضوا الأتاوات عليهم وامتنعوا عن أداء الخراج وتسموا بأسماء الأمراء واختاروا اثنين منهم ليقوداهم سموهما سلار وبيبرس تهكما، فأفتى العلماء بقتالهم وخرج الأمراء للتصدي لهم واصطدموا بهم في شرق النيل وغربه بعد أن أحاطوا بهم فأبادوا كثيرا منهم وأسروا نحو ألفا وستمئة فهدأت الفتنة.




حاول السلطان الناصر التخلص من سطوة الأميرين بيبرس وسلار لكن الأمر تناهى إلى علمهما وحاصراه في القلعة فنزل الشعب إلى الشارع يهتف له: "يا ناصر يامنصور، الله يخون من يخون ابن قلاوون".. كانت هذه هي المرة الأولى التي يخرج فيها الشعب في مصر للتعبير عن رأيه في الشارع أيام المماليك، وقد تصدى لهم الأميران وحاولوا تفريقهم بالقوة فحدثت اشتباكات بين الطرفين زادت في هياج العامة فاضطر الاثنان للخضوع واستجابوا لطلب الشعب وقدموا الولاء للسلطان.
غير أن الحال لم يتغير كثيرا، وبقي بيبرس وسلار على حالهما من الاستبداد بشؤون السلطان فتظاهر برغبته في أداء فريضة الحج وغادر مع أمرائه واستقر في الكرك.

أربك هذا الأمر الأمراء في مصر فغضبوا وطلبوا من السلطان العودة لكنه أصر على موقفه وقال: "دعوني أنا في هذه القلعة منعزلا عنكم إلى أن يفرج الله تعالى إما بالموت أو بغيره".
وعندما عرض الأمراء على سلار منصب السلطنة خشي أن يتعرض لمصير كتبغا ولاجين فاعتذر وقال عن بيبرس: "والله ياأمراء أنا ما أصلح للملك، ولا يصلح له إلا أخي هذا" فبويع بيبرس الجاشنكير للسلطنة عام 1308م
لكن شعبية السلطان الناصر في مصر والشام جعلت الناس لا تنساه بسهولة، خصوصا وأن حكم بيبرس ارتبط بانخفاض النيل وارتفاع الأسعار ففسر الناس ذلك بسوء طالع السلطان الجديد، وطافوا في شوارع القاهرة وهم يقولون: "سلطاننا ركين (تصغير ركن الدين بيبرس) ونائبنا ذقين (الأمير سلار كان أجردا) يجينا الماء منين؟ جيبوا لنا الأعرج (كان الناصر به عرج خفيف) يجي الماء يتدحرج"
ورفض كثير من أمراء الشام الاعتراف بالسلطان المظفر بيبرس بل أرسلوا إلى الناصر بالكرك يستأذنونه بالقدوم لمؤازرته "فإما أن نأخذ له الملك وإما أن نموت على خيولنا"




في ذلك الوقت بدأ الناصر محمد ينضج وينتبه إلى حقوقه.. فكان أن أرسل له بيبرس الثاني يطلب منه مالديه من خيل ومماليك فغضب غضبا شديدا وصاح:
"أنا خليت ملك مصر والشام لبيبرس ومايكفيه حتى ضاقت عينه على فرس عندي أو مملوك لي"
واستعان بحلفائه في الشام وكتب لهم:
"أنتم مماليك أبي وربيتموني فإما أن تردوه عني وإلا أسير إلى بلاد التتار"..
وعندما زار السلطان دمشق استقبل بحفاوة بالغة وأقيمت خطبة الجمعة باسمه وازداد التأييد له وانفض رجال بيبرس من حوله، فحاول  الحصول على تجديد للبيعة من الخليفة العباسي بالقاهرة أبو ربيعة سليمان، لكن ذلك لم يجد نفعا، فبينما كان أحد الأمراء يقرأ تجديد البيعة وجد أولها "أنه من سليمان وأنه بسم الله الرحمن الرحيم" فرد على الفور "ولسليمان الريح"

عندها اضطر بيبرس للتنازل عن العرش وخرج من القلعة تحت جنح الظلام فطاردته العامة وأوسعته سبا وأوشكت على الفتك به لولا أن شغلهم بما رماه إليهم من مال. وهكذا عاد السلطان الناصر محمد للمرة الثالثة إلى القاهرة أول أيام عيد الفطر عائدا من الكرك ليحكم هذه المرة من 1309 إلى 1340م، الموافق 709 إلى 741هـ. واستقبل استقبالا حافلا طوال مسيرته إلى القلعة

في الحلقة المقبلة: السلطان العثماني مراد الأول ابن أورخان

هذه السلسلة بدأت أواخر عام 2010 كفكرة لمسلسل درامي تاريخي.. وقد تحدثت بشأنها مع بعض صناع الدراما، كما تحدثت مع الشيخ وليد الابراهيم مالك مجموعة إم بي سي الذي أعجب بها وحولني إلى مدير الإنتاج الدرامي في المجموعة للتنسيق معه، وقمت بتسجيلها قانونيا باسمي.. إلا أن اندلاع الثورات العربية وتلاحق الأحداث وعملي في أخبار العربية حينها شغلني عن المتابعة، إضافة إلى أن الإسقاط التاريخي الواضح في أحداثها على منطقتنا دفعني للانتظار كي أرى نتيجة الثورات.. وبعد أن طال الزمن وخرج مسار الأحداث عن المنطق والخيال ولم يعد ممكنا التنبؤ بالنهاية، قررت نشر السلسلة على مدونتي، لكنها لا تزال تصلح قصة لمسلسل تاريخي ضخم الإنتاج فيما بعد.. يذكر أن هذه الأحداث موثقة تاريخيا وفق عدة مراجع وكتب علمية، ولا يدخل الخيال في تفاصيلها..

حقوق المادة المكتوبة محفوظة

المراجع: تاريخ الدولة العثمانية /تأليف: الميرالاي اسماعيل سرهنك
           أصول التاريخ العثماني/تأليف: أحمد عبد الرحيم مصطفي
            تاريخ الدولة العثمانية/ تأليف: د.علي حسون
          مصر والشام في عصر الأيوبيين والمماليك/ تأليف: د.سعيد عبد الفتاح عاشور
          تاريخ الدولة البيزنطية/ تأليف: د.جوزيف نسيم يوسف
       العثمانيون والبلقان/ تأليف: د. علي حسون
       تاريخ الأيوبيين والمماليك/ تأليف: د. أحمد مختار العبادي
       تاريخ المماليك في مصر وبلاد الشام/ تأليف: د. محمد سهيل طقوش
       مواقع على الانترنت

Saturday, November 29, 2014


(4)
الملك الأشرف ومعركة عكا

في الحلقة الأولى جاء ذكر المنصور قلاوون حاكم مصر، وعدم ثقته بابنه خليل وعدم رضاه عن تصرفاته وسلوكه الشخصي واعتقاده بأنه غير كفء لتولي عرش السلطنة ما جعله يرفض توقيع تقليد بتوليته الحكم قبل وفاته.. 

غير أن هذا الأمر لم يمنع تسلم خليل للملك، إذ إن الحملة العسكرية التي أعدها قلاوون للثأر من الفرنجة في عكا كانت تتطلب قيام سلطان جديد على وجه السرعة..  
فأدى الأمراء قسم الإيمان للسلطان الجديد الذي أطلق عليه لقب "الملك الأشرف".

ولم يخل الأمر من وجود شخصيات عارضوا وصول "الأشرف" للحكم.. ومما يحكى أنه عندما جلس على عرش السلطنة المملوكية في اكتوبر/تشرين الثاني 1290م 689هـ استدعى القاضي فتح الدين ابن عبد الظاهر صاحب ديوان الإنشاء إليه وسأله عن تقليده.. فأحضر القاضي التقليد وهو خال من توقيع قلاوون معتذرا بأن السلطان شغله أمر العدو عن التوقيع على التقليد. فقال السلطان: يافتح الدين، إن السلطان امتنع أن يعطيني فأعطاني الله، ورمى له التقليد.

اتصف الأشرف خليل بالكبرياء والقسوة، والافتقار إلى ظرف أبيه وحكمته.. لم يكن يهتم حتى لو قتل نفسا، جريا وراء وساوسه وأوهامه، فكان يأمر بالتضييق على أحد خصومه ثم لا يلبث أن يرضى عنه ويقربه، ثم يعيد الكرّة تارة أخرى ويقبض عليه ويعذبه، بل وربما تخلص منه.. غير أنه كان شجاعا مقداما، فلم يقتد بوالده إلا في أمر واحد، هو إصراره على الخروج لمقاتلة الفرنجة وإخراجهم من بلاد الشام..
أما أسوأ صفاته فكان قصر نظره السياسي.. إذ إنه لم يدرك شدة البأس وقوة الشكيمة التي كانت عند الأمراء، وقدرتهم على الدس لمن لا يردعهم ويوقرهم ويرعى حرمتهم من سلاطين مصر.. كما لم يتعظ بما حدث لأسلافه كالمظفر قطز وبركة خان.. فقام فور اعتلائه العرش بإبعاد الأمراء من أتباع أبيه عن مناصب الدولة، لينصب مكانهم شبانا قليلي الخبرة من أعوانه وسماره..  

هذا الأمر جعل أوضاع السلطان الاشرف خليل دائما غير مستقرة، وعرضت حكمه باستمرار للمنافسة التقليدية التي جرت في عهود معظم سلاطين المماليك من جانب كبار الأمراء.. وهكذا بدأت دسائس من قام باستبعادهم ضد حكمه..
كان نائب السلطنة الأمير حسام الدين طرنطاي يكن عداوة وبغضاء لخليل منذ أن كان وليا للعهد.. عز على الأمير حسام الدين ألا يفوز هو بالعرش بعد وفاة قلاوون مما جعله المرشح الأنسب عند الأمراء المستبعدين للمشاركة في التآمر ضد حكم الأشرف.. غير أن هذا الأخير علم بالأمر وقبض على طرنطاي وقتله وصادر أمواله وممتلكاته ونقل
ماتحويه خزائنه إلى بيت المال..


وعلى رغم كل شيء، فإن أهم ما يميز فترة حكم الملك الأشرف كانت معركة عكا، التي تستحق وقفة وشرحا وافيا..
مدينة عكا كانت تمتاز بسمعتها الدفاعية المشرفة منذ حروب صلاح الدين، وقد اهتم الفرنجة منذ أيامهم الأولى بتحصين أسوارها حتى صار يضرب بها المثل في مناعة حصونها. كانت عكا منفذا أساسيا من المنافذ الساحلية لمملكة الفرنجة التي تحكم بيت المقدس.

ولما سقطت مدن الفرنجة في أيدي المسلمين أيام بيبرس وقلاوون صارت عكا ملجأ لجميع الأجانب الذين هاجروا إليها من تلك المدن، لكن هذه العناصر المهاجرة المختلفة عاشت كجاليات مستقلة بشؤونها ولها حكوماتها الخاصة بها، وعلى هذا صارت عكا في أواخر القرن الثالث عشر مجموعة من الدويلات الصغيرة متناقضة المصالح، بعضها يعمل باسم ملك فرنسا والبعض الآخر باسم ملك انجلترا وآخرون باسم ملك بيت المقدس المقيم في قبرص.. وعلى الرغم من هذا فقد راقبت حكومة عكا الاضطرابات الداخلية في القاهرة واستغلت عدم الاستقرار فأرسلت وفدا برئاسة أحد أعيان عكا وعضوية فارسين وكاتب لطلب العفو من السلطان وإقناعه بالتخلي عن مهاجمة مدينتهم.. لكن خليل رفض الاعتذار ورفض استقبال الوفد وزج بأعضائه في السجن فلم يعد هناك مفر من القتال.

ولم يشأ السلطان الخروج في حملته العسكرية من دون احتفالات، أقام فيها حفلة ذكر وزع فيها العطايا على القضاة والفقهاء ثم خرج من القاهرة في شباط/فبراير 1291م 690هـ في طريقه إلى دمشق حيث وضع عياله وحريمه ثم غادر إلى عكا..

في هذه الأثناء أرسل الأشرف إلى جميع ولاة الشام وأمر بإمداده بما لديهم من وسائل النقل لحمل الذخائر والجنود إليه، ومن ثم موافاته إلى أسوار عكا..



وكان ممن انضم الى الجيش قوات حماة التي بلغت أمتعتها من الثقل أن استغرقت رحلتها إلى عكا شهرا كاملا. وقدر عدد أفراد القوات الإسلامية التي اشتركت في الحصار ب60 ألف فارس و160 ألفا من المشاة إضافة إلى عدد ضخم من آلات الحصار والضرب منها 92 منجنيقا من بينها منجنيق ضخم يسير على مئة عجلة سمي "المنصوري".

استبد الرعب بسكان عكا أمام هذا الحشد الهائل واستغاثوا بأوروبا الغربية فلم يتلقوا إلا عددا من الفرسان الانجليز أرسلهم الملك ادوارد، وعددا من الجنود أرسلهم ملك قبرص هنري الثاني.. فلم تجد الطوائف المتنازعة بدا من الاتحاد للدفاع عن المدينة، فبلغت جموع الفرنجة بين ثلاثين وأربعين ألفا منهم 800 فارس و14 ألفا من المشاة والباقي من العوام.

وصل جيش المماليك في شهر ابريل/نيسان وحاصر المدينة، واتخذت قوات حماة مكانها عند البحر وانتشرت باقي الفرق حول المدينة، ونصب السلطان خيمته تجاه برج المندوب البابوي على مسافة قريبة من الشاطئ.

وفي الجانب الآخر من مدينة عكا تمركز عموري أخو ملك قبرص عند زاوية يقع فيها برجا الملكين هنري الثاني وهيو، واتخذ الفرسان الفرنسيون والانجليز مواقعهم عن يمينه ثم قوات البنادقة والبيازنة (سكان بيزا)..


بدأت المعركة بضرب قوات المماليك أسوار عكا بالمنجنيق لكن سيطرة سكان عكا بقيت على البحر فظلت المؤن ترد بانتظام من قبرص رغم الافتقار إلى الأسلحة.

حاولت قوات الفرنجة القيام بهجمات ليلية فشنوا هجوما مفاجئا على معسكر قوات حماة لكن الهجوم فشل، وأدت هذه المحاولة إلى أسر بعضهم وارتد البعض الآخر على أعقابهم إلى داخل المدينة.. بعد ذلك قاموا بشن هجوم آخر فشلوا فيه أيضا.. وكان لهذا الفشل بالغ الأثر في روحهم المعنوية بشكل بالغ، فتوقفوا عن شن الهجمات وتولد بينهم شعور باليأس وأخذوا يدركون أن ليس لديهم ما يكفي من العساكر للدفاع عن الأسوار تجاه الأعداد الضخمة التي حشدها المماليك وصار الوقت في صالح المماليك.

غير أن المدد وصل في شهر مايو/أيار عندما وصل الملك هنري الثاني من قبرص برفقة مئة فارس وألفين من المشاة إضافة إلى قدر كبير من المؤن والإمدادات حملتهم أربعون سفينة، فجرى استقباله بكل مظاهر البهجة والسرور وأشعل السكان نيرانا لم يُر مثلها فرحا به وتشجعوا على الثبات والمقاومة، ولم يكد هنري يهبط على الأرض حتى تولى القيادة فاثار ذلك حماسة في المدافعين.


أجرى هنري محاولة في البداية للتفاهم مع السلطان سعيا منه لإعادة السلام فأرسل رسولين طلبا عقد هدنة ووعداه بإنصاف كل شكوى. استقبلهما السلطان خارج خيمته واستلم منهما الرسالة وسألهما: ألم تحضرا معكما مفاتيح المدينة؟ فلما أنكرا قال: ذلك هو مطلبي.. فما كان منه في المقابل إلا أن وعدهما بتأمين خروج جميع الأجانب من عكا ومعهم أموالهم اذا استسلموا ولم تؤخذ المدينة عنوة.

عندما فشلت المفاوضات قرر الملك هنري الثاني الدفاع عن عكا حتى النهاية رغم الصعوبات التي تمثلت في قلة المدافعين وتجدد النزاعات الداخلية بين بعض الفصائل وقلة التجهيزات.
نجح رجال السلطان في إحداث ثقوب في الأبراج أشعلوا فيها النيران حتى أخذت بالتداعي، ثم شق المماليك طريقهم إلى داخل الخرائب التي أحدثها الضرب المتواصل وأجبروا المدافعين على التقهقر إلى الخط الداخلي من الأسوار. 

بعد ذلك أصدر السلطان أمرا بشن هجوم عام على امتداد الأسوار غير أن التركيز كان على القلعة التي دافع عنها الملك هنري الثاني وقواته، واندفعت الفرق العسكرية المملوكية الواحدة تلو الاخرى وهم يهتفون بصيحات الحرب المرعبة، ترافق ذلك مع إحداث الضجيج المنبعث من الطبول، فأثار ذلك الرعب والخوف في نفوس المقاتلين الفرنجة.. ولم يمض وقت طويل حتى شق المماليك طريقهم إلى القلعة وأجبروا حاميتها على التراجع والخروج ثم دخلوها واستقروا داخل المدينة.


ودار قتال عنيف في الشوارع والأزقة فغادر الملك هنري عكا هاربا مع قواته وفرسانه وشاعت الفوضى في المدينة واندفع العساكر والسكان إلى الميناء وتزاحموا على القوارب يلتمسون الوصول إلى السفن الراسية قبالة الشاطئ، لكنها لم تكن كافية مما أعجزها عن إنقاذ جميع اللاجئين، كما غرق بعضها بسبب ثقل الحمولة. وقتل وأسر عدد ضخم من سكان عكا، وكان آخر موقع استسلم هو دار الداوية (فرسان المعبد) الضخم البارز في داخل البحر في الجهة الشمالية الغربية من المدينة وكان قد لجأ إليه من بقي على قيد الحياة، وظل المدافعون يقاومون حتى تداعت أساسات البناء وانهار.

أما من لزموا بيوتهم فقد بيعوا كرقيق فوصل ثمن الفتاة في سوق الرقيق في دمشق إلى درهم لوفرة أعدادهم.

وبمجرد أن سيطر المماليك على عكا في شهر مايو/أيار 1291م امر السلطان بتدميرها كي لاتبقى رأس حربة لما قد يقوم به الأعداء من هجمات على بلاد الشام.

وخيم السكون على امتداد الساحل الذي ظل زمنا طويلا ميدانا يُسمع فيه صليل سيوف القتال.

بهذا الحماس الدافق حاول السلطان خليل أن يستغل الظرف وينتقل إلى محاربة المغول فطلب من الخليفة الحاكم بأمر الله إعلان الجهاد العام على المنابر، ثم خرج بجيوشه نحو الحدود الفراتي واستولى على قلعة الروم من أيدي التتار وغير اسمها إلى قلعة المسلمين ثم أعلن على الملأ نيته طرد المغول من العراق وإرجاعهم إلى مواطنهم.

وعندما أراد "أرغون خان" وهو أيلخان مغول فارس السخرية من دعايات الأشرف خليل أرسل إليه خطابا يطلب منه تسليم مدينة حلب للإقامة فيها كما كان يفعل ايلخانات فارس من قبل. فرد عليه السلطان خليل بخطاب مثله مطالبا هو الآخر بتسليم بغداد للإقامة فيها أيضا وإعادة الخلافة العباسية إليها. 
لكن القدر كان يرسم خطا آخر.

في الحلقة المقبلة: الاضطرابات والدسائس والانقلابات بين أمراء المماليك في مصر

هذه السلسلة بدأت أواخر عام 2010 كفكرة لمسلسل درامي تاريخي.. وقد تحدثت بشأنها مع بعض صناع الدراما، كما تحدثت مع الشيخ وليد الابراهيم مالك مجموعة إم بي سي الذي أعجب بها وحولني إلى مدير الإنتاج الدرامي في المجموعة للتنسيق معه، وقمت بتسجيلها قانونيا باسمي.. إلا أن اندلاع الثورات العربية وتلاحق الأحداث وعملي في أخبار العربية حينها شغلني عن المتابعة، إضافة إلى أن الإسقاط التاريخي الواضح في أحداثها على منطقتنا دفعني للانتظار كي أرى نتيجة الثورات.. وبعد أن طال الزمن وخرج مسار الأحداث عن المنطق والخيال ولم يعد ممكنا التنبؤ بالنهاية، قررت نشر السلسلة على مدونتي، لكنها لا تزال تصلح قصة لمسلسل تاريخي ضخم الإنتاج فيما بعد.. يذكر أن هذه الأحداث موثقة تاريخيا وفق عدة مراجع وكتب علمية، ولا يدخل الخيال في تفاصيلها..

حقوق المادة المكتوبة محفوظة