Tuesday, November 25, 2014

(3)
صراع الروم واللاتين


مثل جميع الأقوام، يتصارع الغربيون أيضا.. والخلاف بين الروم واللاتين متجذر وعميق.. والمناوشات بينهما تشتعل نتيجة تناقضات عقائدية بينهم وأحيانا لأطماع شخصية وإقليمية... حروب الفرنجة بين أوروبا والعالم الاسلامي في القرن العاشر الميلادي زادت هوة العداء بين البيزنطيين واللاتين، وعندما عجز امبراطور القسطنطينية عن منع ملك الألمان من العبور عن طريق عاصمته لكثرة أعداد قواته ما كان منه إلا أن منع الإمداد والتموين عنهم.
في الواقع وقفت الدولة البيزنطية من الحروب الصليبية منذ البداية موقفا جعل دول غرب أوروبا تنظر لها على أنها لا تريد لهم أن ينتصروا أو أن تتحقق أطماعهم في المنطقة.. 
وأثناء غزو اللاتين لبلاد الشام كانت فكرة خلع امبراطور القسطنطينية وإخضاع الامبراطورية الشرقية لحكمهم بالقوة حاضرة في مخططاتهم، حيث أبدت البابوية استعدادها لهذا وكذلك عمل تجار البندقية على تخريب القسطنطينية وبيزنطة اقتصاديا ونهبوها.

صورة من الحملات الصليبية


في شهر يناير/كانون الثاني من عام 1204م انفجرت ثورة في العاصمة البيزنطية وعندها تحولت الحملة الصليبية الرابعة عن أهدافها فاحتلت القسطنطينية وأخضعت الامبراطورية البيزنطية بالقوة..

الغربيون اللاتين نهبوا القسطنطينية ودمروها وأزالوا العرش الامبراطوري البيزنطي وهم في طريقهم إلى بيت المقدس، ودخلوا المدينة فهرب ملكها، ثم سرقوا الأموال وأخذوا الذهب وفتكوا بالروم ونهبوا آيا صوفيا وقتلوا من التجأ إليها ومن كان فيها.

بعد ذلك قسمت ممتلكات الدولة، ونصّب الزعماء امبراطورا فيما بينهم وهو "بلدوين" بطريارك بيت المقدس اللاتيني، فأصبح أمر الكنيسة البيزنطية في يد البنادقة الذين أخذوا ثلاثة أثمان القسطنطينية وكثيرا من المدن والجزر منها مدينة أدرنة وجزيرة كريت وكان الحي الذي تقوم فيه كنيسة آيا صوفيا من نصيبهم. وأقيمت مملكة في مقدونية وتراقية على أن يعترف ملكها بتبعية إقطاعيته للامبراطور.

بيزنطة إذن كانت محتلة إن صح التعبير من قبل الغربيين لفترة من الزمن.. وبطبيعة الحال، فإن امبراطورية لاتينية موزعة جغرافيا بهذا الشكل لم يكن مقدرا لها أن تستمر طويلا، بالأخص مع العداء الشديد المستحكم بين الحكام اللاتين والمهزومين البيزنطيين..
البابوية في روما كانت تستهدف في ذلك الوقت توحيد الكنيستنين على مذهبها قبل أن تجتاح العالم الإسلامي في ظل ظروف لم تبد ملائمة.. أما اجتماعيا فإن التنظيم الإقطاعي اللاتيني كان مختلفا عن النظام الاجتماعي والاقتصادي في بيزنطة ولم يكن ممكنا تطبيق النظام اللاتيني في مناطق البيزنطيين التي تمت السيطرة عليها، إذ إن الإقطاعية والمحلية في الغرب أضعفت من سلطة الحكومة المركزية، في حين كانت الدولة البيزنطية بيروقراطية الصبغة والطابع، مركزية الحكم والإدارة.. إضافة إلى ذلك، كان نظام الشرق تجاريا يسود فيه الاقتصاد النقدي والمالي، بعكس نشاط الغرب الزراعي الإقطاعي.. 
خريطة القسطنطينية اللاتينية وامبراطوريات المنفى

لهذا قامت حركة قومية تستهدف طرد الغربيين من البلاد وتكونت في "نيقية" في آسيا الصغرى عام 1206 امبراطورية بيزنطة في المنفى على رأسها صهر الامبراطور المخلوع الكسيس الثالث وكان اسمه "تيودور الأول لاسكاريس"، أما العرب فكانوا يسمونه "الاشكري" على عادتهم في إعطاء الألقاب لأباطرة بيزنطة.
كما تكونت امبراطورية ثانية في المنفى في طرابيزون على البحر الأسود وعلى رأسها سيدة من أسرة كومنين، فضلا عن إمارات بيزنطية تكونت في جهات لم تصل إليها الحملة الرابعة.
هذه الحكومات التي تشكلت في المنفى كانت مصدر متاعب وقلاقل للاتين في القسطنطينية، أضيف إليها الدولة البلغارية التي انقلبت على اللاتين بعد أن أهملوا شأنها كونهم لا يهتمون بالبلقان كثيرا.

السبب الوحيد الذي جعل اللاتين يبقون طويلا في القسطنطينية هو المنافسة الحادة التي كانت تجري بين حكومتي المنفى، غير أن التنافس تراجعت حدته مع الزمن وتحالف البلغار مع نيقية في زمن ملكهم حنا آسين، فانحصرت امبراطورية اللاتين بين امبراطورتين متحالفتين ضدها.

وحدها البندقية التي كانت لها مصالح جمة في القسطنطينية صمدت وحاولت بكل السبل الدعم والمساندة، على عكس أوروبا التي لم تهتم كثيرا بنداءات الامبراطور اللاتيني، كتلك الحادثة التي جرت في قبرص..
فقد كان لويس التاسع ملك فرنسا يعد العدة للهجوم على مصر، وفي طريقه لتحقيق هدفه أثناء إقامته في جزيرة قبرص وفدت إليه الامبراطورة ماري، زوجة بلوين الثاني امبراطور القسطنطينية اللاتيني وطلبت منه ومن كبار الغربيين المساعدة لتعزيز مركز زوجها المزعزع، غير أنها لم تلق إلا العطف والوعود الخلابة التي ذهبت أدراج الرياح فور مغادرتها الجزيرة..

بعد "تيودور لسكاريس" (الاشكري) تولى الامبراطورية البيزنطية في نيقية عام 1212 الامبراطور "دوكاس فاتاتزيس"، وكان أول ما فعله هو أن تحالف مع البلغار ثم أخرج اللاتين من آسيا الصغرى عام 1241.. بعد ذلك عمل على استمالة امبراطور ألمانيا فريدريك الثاني بزواجه من ابنته سنة 1244..
كانت البابوية حينها في صراع عنيف مع الامبراطور الألماني على مسائل دنيوية، فقد كان الامبراطور يكره الجمهوريات الايطالية بما فيها البندقية، وهذا ما جعل مساعدته مهمة.

ومرة ثانية تأخرت نهاية الامبراطورية اللاتينية في بيزنطة بسبب خلافات البيزنطيين بين بعضهم البعض.. فقد وقع خلاف شديد بين الطامعين في العرش البيزنطي بعد نهاية حكم فاتاتزيس سنة 1254م.. ولم يضع حلا لهذا الخلاف إلا "ميخائيل الثامن باليولوغس" الذي تولى عرش نيقية واستطاع أن يعبر البحر إلى ضواحي القسطنطينية عام 1261 وأن يمهد للاستيلاء عليها.. وقد استخدم ميخائيل أسلوب إيقاع العداوة بين الحلفاء للوصول إلى أهدافه، فما كان منه إلا أن أثار البنادقة والجنويين على بعضهم البعض، وتحالف مع جنوة بعد أن وعدها بامتيازات يسيل لها اللعاب.. بهذه الطريقة فقط حدث الهجوم على القسطنطينية وهرب الامبراطور اللاتيني والبطريرك وممثلي البندقية عام 1261، ودخل ميخائيل العاصمة في شهر أغسطس/آب من نفس العام.

صورة البابا الفرنسي أوربان الرابع
29/8/1261- 2/10/1264

بطبيعة الحال، أثار هذا غضب البابا، فحرض زعماء الغرب وعدّ مخايل خارجا على الكنيسة النصرانية. لكن هذا الأخير 
حاول مصالحة البابا وعرض عليه توحيد الكنيستين، غير أن البابا توفي وتسلم مكانه آخر أشد كرها للروم فأصدر قراره بحرمان الامبراطور مخايل بشكل كامل..

مخايل توفي وهو يحاول العودة إلى الكنيسة البابوية، فازدادت الهوة عمقا بين الكنيستين وتمكن العثمانيون أثناء هذه الأحداث المنهكة من اجتياح كثير من الأراضي الامبراطورية التي لم يبق منها سوى ظل باهت وشبح متهالك، غير قادر على مقاومة الدولة العثمانية الفتية، يضاف إلى ذلك عامل آخر يساهم في ضعف أي دولة كبرى، وهو أن بعض القوى البيزنطية بقيت منفصلة عن جسم الامبراطورية.
وهكذا، عندما شرع الأتراك بتسجيل انتصاراتهم العسكرية وتهديد الأراضي البيزنطية تدفقت أعداد غفيرة من اللاجئين إلى القسطنطينية والساحل وسببت مشكلات جديدة للدولة البيزنطية.

كان عثمان قضى على الامبراطورية البيزنطية في أوروبا عام 1302م عندما ألحق هزيمة بالجيش البيزنطي قرب "نيكوميدي" (إزميت حاليا) على بحر مرمرة، 
ومقابل ذلك استخدم "اندرونيكوس" امبراطور القسطنطينية مجموعة مرتزقة إسبان من شركة "قطلان" كانت حاربت سابقا في صقلية للقيام بشن هجوم ناجح على الأتراك في الأناضول، غير أن هؤلاء المرتزقة انقلبوا ضد سادتهم عندما اغتيل قائدهم وانتقلوا إلى جزيرة غاليبولي وحولوها إلى قاعدة لشن غارات السلب والنهب، فما كان من العثمانيين إلا أن أجلوا عن غاليبولي بعد سنة، فانخفضت قيمة العملة الذهبية البيزنطية بعد ذلك وتحمل الشعب أعباء الضرائب الفادحة دفع المزارعون فيها العبء الأكبر، وأدى تعويم العملة ورفع الأسعار إلى مجاعة محققة وعجز وفقر مدقع في أنحاء المملكة.. هذا الحال لم يشمل القسطنطينية التي كان سكانها يتزايدون بفعل اللجوء، حيث وجد الجشع والاحتكار والاتجار بالسوق السوداء طريقه إلى نفوس التجار ضعيفي النفوس في البلاد.


بصورة عامة، حكمت بيزنطة رغم انتقاص مساحاتها لمدة تقارب القرنين من الزمن من قبل أسرة باليولوجية، تخلفت الزراعة فيها وتشكل قوام المجتمع من مطارنة لا يهتمون إلا بالشكليات ورهبان وملاك ومزارعون مستأجرون وفلاحون هبطوا إلى مستوى العبيد للأرض.

وكان لا بد وأن ينفجر الوضع يوما ما والحال كذلك.. فتفجرت المشكلات في القسطنطينية عام 1320م عندما حرم أندرونيكوس الثاني حفيده أندرونيكوس الثالث من وراثة العرش لأسباب عائلية. ورفض أصدقاء الامبراطور الصغير هذا الإجراء وأدى الأمر إلى نشوب صراع مدة سبع سنوات حتى عام 1328م اضطر بعده الامبراطور العجوز للتنازل عن الحكم لحفيده.
وفي فترة حكم اندرونيكوس الثالث بين 1328 و 1341م انتصر الأرستقراطيون وتجسدت آمالهم فأصبحت لهم اليد الطولى في توجيه دفة الحكم والسياسة، لكن عصره شهد خسارة معركة حربية قرب نيكوميدي أمام اورخان العثماني.

شعار جيش الأسرة الباليولوجية
وآثار فترة الامبراطور ميخائيل الثامن

بهزيمته، اختار الامبراطور قبول الواقع الصعب وأعلن دعمه الواسع للعثمانيين ووجه اندرونيكوس وكانتاكوزين الدعوة لأعداد غير محدودة من الجنود الأتراك كي تقاتل معهما ضد أعدائهما الإيطاليين في جزر بحر إيجة والصرب والبلغار ومكدونيا وتراقيا.
في غضون ذلك، خطط اندرونيكوس الثاني للسيطرة على الصرب دبلوماسيا لكن دوشان الذي تسلم عرش صربيا عام 1331م استغل ضعف الامبراطورية وأعلن رغبته في تنصيب نفسه ملكا وامبراطورا للصرب واليونان، ومن ثم ابتلع دوشان كامل اليونان الشمالية وضمها لامبراطوريته.
بعد ذلك قامت ثورة سالونيك عام 1341م 741هـ وطردت رجال الطبقة الارستقراطية وأقامت جمهورية ونهبت القصور لمدة ثماني سنوات.
غير أن القسطنطينية استمرت تشغل مركزها التجاري المرموق رغم البيوت المتهدمة وأطلال القصور الخاوية، وامتزج في ذلك الوقت التراث اليوناني بالفلسفة البيزنطية الشرقية من حيث العمارة والتصوير. وكرست المدارس فكر أفلاطون وأرسطو، كما مد جسر ثقافي بين بيزنطة وإيطاليا ظهرت نتيجته مؤلفات تارخية وشعرية متميزة.
كانت سفن جنوة والبندقية تسيطر على البحر الاسود وعندما أقيمت جمهورية اللصوص القطالونيين في أثينا كان البابا يتآمر مع فرنسا ونابولي والبندقية محاولا استرجاع القسطنطينية لكنه فشل.

في الحلقة المقبلة: عهد الملك الأشرف في مصر والشام ودسائس المماليك في الحكم
(ملاحظة: بعض الروابط في هذه الحلقة أوسع شرحا بالانجليزية منها باللغة العربية ولهذا تم الاستعانة بها في شرح معلومات أندرونيكوس وتاريخ القسطنطينية) 

No comments:

Post a Comment