Saturday, November 22, 2014


(2)
أركان دولة عثمان
وبداية حروبهم مع بيزنطة


مقدمة:هذه السلسلة بدأت أواخر عام 2010 كفكرة لمسلسل درامي تاريخي.. وقد تحدثت بشأنها مع بعض صناع الدراما، كما تحدثت مع الشيخ وليد الابراهيم مالك مجموعة إم بي سي الذي أعجب بها وحولني إلى مدير الإنتاج الدرامي في المجموعة للتنسيق معه، وقمت بتسجيلها قانونيا باسمي.. إلا أن اندلاع الثورات العربية وتلاحق الأحداث وعملي في أخبار العربية حينها شغلني عن المتابعة، إضافة إلى أن الإسقاط التاريخي الواضح في أحداثها على منطقتنا دفعني للانتظار كي أرى نتيجة الثورات.. وبعد أن طال الزمن وخرج مسار الأحداث عن المنطق والخيال ولم يعد ممكنا التنبؤ بالنهاية، قررت نشر السلسلة على مدونتي، لكنها لا تزال تصلح قصة لمسلسل تاريخي ضخم الإنتاج فيما بعد.. يذكر أن هذه الأحداث موثقة تاريخيا وفق عدة مراجع وكتب علمية، ولا يدخل الخيال في تفاصيلها..

أورخان:
بورصة، هذه المدينة التركية المهمة آنذاك سقطت عام 1326م على يد جيش قاده أورخان ابن عثمان، الذي هرول إلى والده ليزف له الخبر لكن عثمان كان على فراش الموت بعد مرض ألم به ولم يلبث أن توفي عن ثمانية وستين عاما تاركا من الأولاد ستة وبنتا واحدة هي فاطمة خاتون، وقد أوصى لابنه أورخان وصية جاء فيها:
يابني: إياك أن تشتغل بشيء لم يأمر به الله رب العالمين وإذا واجهتك معضلة في الحكم اتخذ مشورة علماء الدين موئلا. يابني أحط من أطاعك بالإعزاز وأنعم على الجنود ولا يغرنك الشيطان بجندك وبمالك وإياك أن تبتعد عن أهل الشريعة. يابني: إنك تعلم أن غايتنا هي إرضاء الله رب العالمين وأن بالجهاد يعم نور ديننا كل الآفاق فابحث عن مرضاة الله جل جلاله. يابني لسنا من هؤلاء الذين يقيمون الحروب لشهوة حكم أو سيطرة أفراد، فنحن بالإسلام نحيا وبالإسلام نموت وهذا ياولدي ما أنت أهل له.

العثمانيون يعتبرون عثمان سلطانهم الاول، فهو أول من راوده حلم إرساء قواعد دولة مترامية الأطراف، ورغم بساطة مظهره فقد كانت طلعته توحي بالهيبة وكان يطلق عليه اسم عثمان الأسود لما في اللون الأسود في الشرق من احترام باعتباره رمزا لقوة الشخصية والحيوية الجسمانية.

وكي نقف على تطورات الأحداث من دون أن نشعر بنقص في المعلومات، وكي يكتمل إطار الصورة التاريخية، لا بد لنا من الوقوف في محطة سريعة نعرض الخطوات التي تأسست بناء عليها أركان دولة عثمان..
بعد وفاة عثمان خلفه ابنه أورخان وهو في الأربعين من عمره، وكان أورخان طويل القامة أشقر اللحية أزرق العينين رقيق الفؤاد شفوقا على الضعفاء حليما مع الأعداء وفي الوقت نفسه شديدا عند المحن وباسلا في القتال وعند المناسبات. كان عطوفا على الفقراء يكرم العلماء شديد التدين وعادلا..وكان معروفا بحسن الخلق واللطف، وكانت النساء اللاتي يتظلمن إليه يلاطفهن بالكلام وينعم عليهن بما يسر خواطرهن فمالت إليه قلوب الناس، عاش في أوساط الجماهير وأكل معهم وتكلم وإياهم وأصغى إلى شكواهم، وكان متسامحا مع غير المسلمين وودودا في التعامل وإياهم.. لم يحاول فرض الإسلام عليهم أبدا، لكنه أصدر قرارا بتوفير نظام مكافآت للخدمة العسكرية التي اقتصرت على المسلمين، وأعلن أن جزءا كبيرا من الأراضي التي يتم الاستيلاء عليها خارج المدن سيوزع على الجنود الذين شاركوا في القتال.
المسيحيون كانوا يعفون من الخدمة العسكرية مقابل دفع الجزية التي كانت تكرس حصيلتها للإنفاق على القوات المسلحة التي كانت تدافع عن الجميع، أما من اختار اعتناق الإسلام فكان على الفور يكتسب صفة عثماني.

بازدياد قوة العثمانيين وبدء فترة الحروب الكبرى لجأوا إلى وسيلة تكفل وجود عناصر شديدة الولاء للدولة تدافع عن حدودها، هذه الوسيلة هي "الدوشرمة"..
الدوشرمة هي مجموعة من أطفال غير مسلمين يقال إنهم الأفضل في الذكاء والقوة البدنية كانوا ينتزعون من أهاليهم في المناطق التي يتم غزوها، ويتم إعدادهم للمهام الإدارية والقتالية بعد تحويلهم إلى الإسلام، منهم جاء نظام الانكشارية الشهير. وقد ملأ أطفال الدوشرمة صفوف الانكشارية وقوة الخيالة النظاميين ومنهم من أصبح من كبار موظفي الدولة. وقد شكل أطفال الدوشرمة قمة جهاز الحكم وسيطروا على الأتراك ذاتهم.
أما فرقة الانكشارية (يني غري أو الجيش الجديد) فقد جرى إنشاؤها في عهد أورخان، ولإطلاق هذا اللقب قصة تقول: إن الدرويش حاجي بكتاش الذي اشتهر بورعه (كان للدراويش المتدينين والعلماء مكانة خاصة ومرموقة عند العثمانيين) اصطحب له أورخان الدفعة الاولى من المجندين في مسكنه ورجاه أن يباركهم ويخلع عليهم اسما، فوضع بكتاش كمّه فوق رأس أحد الواقفين في الصف الاول وقال للسلطان: إن القوات التي أنشأتها ستحمل اسم يني غري وستكون وجوههم بيضاء وضاءة، وستكون أذرعهم اليمنى قوية وسيوفهم بتّارة وسهامهم حادة، وسيوفقون في المعارك ولن يبرحوا ميدان القتال إلا وقد انعقدت لهم ألوية النصر....
وتخليدا لهذه البركة التي منحها بكتاش كان الانكشارية يضعون على رؤوسهم قلنسوة من اللباد الابيض، شبيهة بقلنسوة الدراويش، تتدلى منها من الخلف قطعة من الصوف باعتبارها رمزا لكمّ الولي الذي بارك به زميلهم.

كان أورخان يبلغ من العمر خمسة عشر عاما عندما اشترك في المعارك وأمضى بعد ذلك معظم عمره في ساحة القتال.. يقول عنه الرحالة ابن بطوطة الذي التقى به:
"هذا السلطان هو أكبر ملوك التركمان وأكثرهم مالا وبلادا وعسكرا، له من الحصون ما يقارب مئة حصن وهو في أكثر أوقاته لا يزال يطوف عليها، ويقال إنه لم يقم قط شهرا كاملا في بلده، كان يقاتل الأعداء ويحاصرهم"
 وسع أورخان مساحة الدولة العثمانية من 16 ألف كم مربع إلى 95 ألف كم مربع أثناء حكمه وقاد الجيوش كرأس للدولة، وله من الأبناء خمسة هم سليمان ومراد وابراهيم وخليل وقاسم وابنة واحدة هي فاطمة..
أصبحت بورصة في عهده عاصمة الدولة، حيث التفت خلال حكمه الذي امتد خمسة وثلاثين عاما إلى التنظيمات الضرورية وسن القوانين بمساعدة رجال حكومته ومنهم القاضي "جندره لوقره خليل" الذي بدأ بضرب السكة العثمانية وجعل للمأمورين والأمراء والعساكر وطبقات الأهالي ملابس مخصوصة..
وعندما رأى السلطان أن جيوشه المؤلفة من فرسان التركمان والرعية المتطوعين للحرب لا نظام لهم ولا معرفة لهم بقوانين الضبط أخذ يرتب العساكر النظامية ووضع لهم قانونا للتربية وأنشأ طائفة الانكشارية او اليكيجاري، وبلغ من دقة التنظيم في اختيار وتدريب الجند الانكشارية أن أصبح جيشهم في مرتبة أفضل الجيوش التي عرفها العالم آنذاك، فهم دائما رهن إشارة السلطان الذي رباهم وعلمهم ورقاهم، فكانوا مخلصين مطيعين صبورين على الشدائد..
وتميز الفرسان الذين شكلوا نواة الجيش بخفة الحركة والمهارة وقد خاف الأعداء سطوة هذا الجيش الذي لم يقف في طريقه شيء، كان سلاحه خفيفا يتكون من القوس والنشاب والرمح الخفيف والسيف القصير والمجن الصغير. ولم يكن للخمر أو الميسر أو البغاء مكان في هذا الجيش الذي كانت روح الجهاد عامرة في نفوس ابنائه.


وخلافا لأقوام لا يتوقفون عن الحروب كالمغول والتتار، لم يكن هم سلاطين عثمان الأوائل الرئيسي هو شن الحروب الواحدة تلو الأخرى طمعا في التوسع، بل تميزوا بالحرص والرغبة في تعزيز سلطتهم في الأراضي التي يضمونها، وهذا ما دفع بالسلطان أورخان لتكريس نظام الدولة في أركان ملكه..
ويقال إن التشريع العثماني الأول وتنظيم الجيش كان يعود إلى الأمير علاء الدين شقيق أورخان. علاء الدين هذا كان رجل سلام اعتزل العالم وهو في ريعان شبابه ولم يشترك في القتال، ورفض العرض الخاص باقتسام أراضي عثمان ومن ثم تعيينه صدرا أعظم من قبل أورخان أو حتى القبول بلقب باشا، كما يقال إنه هو من سن القوانين ونظم الجيش.

بكل حال، عندما أرسى أورخان قواعد الدولة التفت إلى الفتوحات، وعندما تحالف قيصر بيزنطة مع البنادقة (أهل البندقية) الذين لم يتوقفوا أبدا عن الهجوم على حدود العثمانيين من جهة البحر، جهز أورخان ولده الأمير الغازي سليمان باشا للاستعداد والزحف على بلاد الروم حيث تقدم وجيوشه عام 1356 باتجاه مضيق الدردنيل وعبروه فكانت بداية التاريخ البحري للدولة العثمانية، وأصبحت غاليبولي أول قاعدة عثمانية في أوروبا، منها انطلقت الحملات التي أدت إلى الاستيلاء على البلقان.

أهل بيزنطة كانوا قبل ذلك يتقاتلون للفوز بالوصاية على عرش ولي العهد بعد وفاة الامبراطور أندرونيكوس الثالث، ومن هؤلاء المتقاتلين كانتا كوزين رئيس الوزراء الذي كان يعتقد أنه الأحق بالوصاية، كون ولي العهد يوحنا باليولوغوس يبلغ التاسعة من عمره.. ومن أجل الوصول إلى هدفه استعان كانتا كوزين بالسلطان أورخان وزوجه بابنته تيودورا زوجة ثانية على رغم فارق السن لمساعدته على تحقيق هدفه، فانتقل سليمان ابن أورخان طبقا لخطة متفق عليها إلى تراقيا على سفن بيزنطية عام 1345م لتأمين دعم حليف أورخان.

غير أن القدر كان على الوعد، وبينما كان سليمان باشا في رحلة قنص مع بعض من صحبه، جمح به جواده فجأة وصدمه بقوة في بعض الاشجار فلقي في هذا الحادث حتفه ومات شابا، وحزن عليه جنوده الذين كانوا يحبونه حبا جما حزنا شديدا، كما أن الخبر عندما وصل إلى والده السلطان أورخان مات غما وكمدا عام 1360م لتصبح الأمور مهيئة كي يتسلم مراد الأول زمام السلطة والقيادة ويرسم التاريخ خطا ظل محفورا في وثائق الامبراطورية العثمانية

في الحلقة المقبلة: الصراعات والأحقاد التي تمزق الامبراطورية البيزنطية وأثر ذلك في انهيارها..

(جميع الحقوق محفوظة باسم صاحبة المدونة)
المراجع ستذكر لاحقا

1 comment:

  1. لفتتني مسألة الدوشرمة والانكشارية بوصفهم جماعة وظيفية قتالية، هي نفسها الجماعة التي كانت فيما بعد أحد أبرز عوامل تحلل الخلافة العثمانية، نفس المفارقة نجدها حصلت مع الأنظمة العربية، فالقمع بوصفه الأداة التي كفلت لهذه الأنظمة بقاءها واستمرار حكمها كانت نفس السبب الذي أودى ويودي بهذه الأنظمة ولكن للأسف يودي بالوطن نفسه

    ReplyDelete