Wednesday, November 19, 2014

نشأة الدولة العثمانية
وانهيار الحكم في بلاد الشام ومصر
(1) 

مقدمة:هذه السلسلة بدأت أواخر عام 2010 كفكرة لمسلسل درامي تاريخي.. وقد تحدثت بشأنها مع بعض صناع الدراما، كما تحدثت مع الشيخ وليد الابراهيم مالك مجموعة إم بي سي الذي أعجب بها وحولني إلى مدير الإنتاج الدرامي في المجموعة للتنسيق معه، وقمت بتسجيلها قانونيا باسمي.. إلا أن اندلاع الثورات العربية وتلاحق الأحداث وعملي في أخبار العربية حينها شغلني عن المتابعة، إضافة إلى أن الإسقاط التاريخي الواضح في أحداثها على منطقتنا دفعني للانتظار كي أرى نتيجة الثورات.. وبعد أن طال الزمن وخرج مسار الأحداث عن المنطق والخيال ولم يعد ممكنا التنبؤ بالنهاية، قررت نشر السلسلة على مدونتي، لكنها لا تزال تصلح قصة لمسلسل تاريخي ضخم الإنتاج فيما بعد.. يذكر أن هذه الأحداث موثقة تاريخيا وفق عدة مراجع وكتب علمية، ولا يدخل الخيال في تفاصيلها..


تبدأ أحداث هذه السلسلة عام 1281م/680هـ، عندما توفي أرطغرل بن سليمان شاه عن عمر ناهز التسعين عاما.. فكان أن حزن السلطان علاء الدين الرومي السلجوقي عليه وعين مكانه ولده عثمان لما رأى فيه من حزم واجتهاد وسير على خطى أبيه في الغزو والجهاد.
عثمان كان ذا شخصية جذابة تغري الآخرين بخدمته، تحلى بالجلد والمثابرة وضبط النفس والهيبة واتصف بالتسامح. كان موهوبا ونال إجماع القادة لحسن سيرته وحنكة إدارته عندما تولى زمام الامور، في عمر لم يتعد الثلاثة والعشرين ربيعا.. امتاز بالقوة الجسدية والروحية وشدة البأس في القتال، وكان عريض الصدر مقطب الجبين، طويل الجذع عريض المنكبين، بيضوي الوجه أزرق العينين حنطي البشرة.

أطلق عثمان على نفسه لقب بادشاه آل عثمان، وبادشاه تعني خادم الشاه لأن العثمانيين كانوا يستثقلون إطلاق لقب الشاه على أنفسهم، وانتقل عثمان بإمارته من إمارة حدودية إلى دولة مستقلة بكل مقوماتها لها عاصمة وأهداف محددة وشعب ، فبنى أركان سلطته على أساس العدالة، وعندما وصلت دولته إلى يني شهر (المدينة الجديدة) أعلنها عاصمة لملكه، وباعتبار أن دولة قرمان التي قامت على أنقاض دولة السلاجقة كانت قوية جدا رأى عثمان أن الاصطدام بها محفوف بالمخاطر فوضع نصب عينيه توسيع رقعة إمارته على حساب البيزنطيين..
منذ ذلك الحين أصبح العثمانيون القوة الرئيسية التي تصون حمى الإسلام في هذه البقعة من العالم، ساعدهم في ذلك فساد شبكة دفاعات العدو البيزنطي والمشكلات الاقتصادية والاجتماعية والدينية التي كانت نتخر في جسم أعدائهم، فبدأوا يدخلون بوابة التاريخ باقتدار.

كان الفساد والضعف ينخر في جسم المملكة الرومية وكانت أحوال ولاياتها غير منتظمة، وكان كل حاكم من حكامها يستبد في ولايته حسب رغبته ومشتهاه، فاستغل عثمان هذه النقطة وأخذ بإلقاء بذور العداوة والشحناء بين جموعهم حتى استطاع الاستيلاء على ولاياتهم. ومن القصص التي تذكر عنه أنه استغل يوما حفلة عرس كانت تجري في أرض للبيزنطيين وبالحيلة أوقع بأعدائه واختطف العروس  وزفّها لابنه أورخان خان وهي السيدة نيلوفر صاحبة الآثار الخيرية التي لا تزال تنسب إلى اسمها بجانب بورصة وقد ولدت له سليمان وخداوند كار مراد، هذه العروس البيزنطية المختطفة ستكون والدة مراد الأول الذي سيبني الدولة وفي عهده سيرفع العلم التركي الذي سيستمر كما نعرفه حتى الزمن الحاضر، وستفتح له أبواب أوروبا عبر البلقان فيما بعد وسيمهد لسقوط بيزنطة بعد فترة من الزمن. المؤرخون يتفقون على أن استقلال العثمانيين الفعلي كان عام 1299 ميلادي.

كان المماليك البحرية الذين ينتسب إليهم الظاهر بيبرس بطل معركة عين جالوت يحكمون مصر والشام والحجاز، وكان من أعظم سلاطينهم سيف الدين قلاوون الذي حكم بين عامي 1279 و 1290 وهو شخص ذو نزعات سلطوية وحاد الذكاء، يقال إنه كان حليما عفيفا في سفك الدماء مقتصدا في العقاب كارها للاذى، وإنه كان رجلا مهيبا شجاعا

كما يقال إنه كان محبا لجمع المال لكن كثيرا من الاموال التي جمعها أقام بها مدارس وبيمارستانات (مستشفيات) وجدد بها قلاعا كثيرة في الشام، كما أنه لم يهدأ في حروبه ضد المغول والفرنجة. وسنرى كيف وضع البذرة الأولى لإخراج بقية الفرنجة من سواحل بلاد الشام نهائيا قبل أن يعودوا عبر الاستعمار الغربي في القرن العشرين.



ولكي يثبت قلاوون حكمه طلب من أمراء المماليك الموافقة على تولية ابنه علاء الدين ولقبه "الملك الصالح" من بعده، لكن علاء الدين مات في حياة ابيه عام 1288 فحزن قلاوون حزنا شديدا عليه، وكان المرشح الذي يليه لولاية العهد هو الابن الثاني خليل الملقب "الملك الأشرف" غير أن السلطان رفض التوقيع على نسخة توليه التي كتبها القاضي ابن عبد الظاهر وقال:  "ما أولّي خليلا على المسلمين" والسبب هو عدم ثقته فيه واعتقاده بأنه غير مؤهل لإدارة شؤون الحكم فقد كان خليل يتصف بالقسوة وعدم التدين كما اتُهم بدس السم لأخيه علاء الدين، وكان السلطان يرتاب في سلوكه الشخصي وسوء سيرته تجاه الأمراء الذين نفروا منه لاستهانته بهم، وقد توفي قلاوون دون أن يوقع العهد لابنه خليل لكن ذلك لم يمنع من أن يؤول إليه الملك بعد ذلك، على رغم أن حكمه ظل محفوفا بالدسائس والمخاطر.

ولأن السلطان قلاوون كان لا يثق بالمماليك البحرية بسبب دسائسهم أنشأ قوة من المماليك الجراكسة وهو عنصر من أصل قوقازي يعيش قرب شواطئ البحر الاسود أغلب أفراده يتصفون بالشعر الأشقر والعيون الزرق وقوة البدن والشجاعة، تواجدوا بأعداد كثيرة في الأسواق بسبب تعرض بلادهم لغزوات المغول وكانت أسعارهم أرخص من بقية المماليك، وقد عمل قلاوون على الإكثار من شراء هذا العنصر حتى أضحى عددهم ثلاثة آلاف وسبعمئة في أواخر أيامه وأنزلهم في أبراج قلعة القاهرة ومنعهم من مغادرتها ولهذا أطلق عليهم اسم المماليك البرجية أما اسم المماليك الشراكسة فقد جاء فيما بعد. كما عني قلاوون بهؤلاء المماليك الشقر وألبسهم زيا جديدا وعلمهم أصول الدين ودربهم على استخدام الرماح ورمي النشاب، وظل أبناء قلاوون على عهده في رعاية المماليك الجدد الذين سيؤول إليهم الحكم بعد مئة عام، عندما تنهار دولة المماليك البحرية.


بعد معاهدة عقدت بين السلطان قلاوون والفرنجة في بلاد الشام وصلت مجموعة من ايطاليا إلى عكا عام 1290 وأفرادها يفيضون حماسة لكنهم في نفس الوقت كان ينقصهم النظام والخبرة وضبط النفس فقاموا بالاعتداء على المسلمين خارج أسوار عكا، وعندما رأى السلطان ملابس الضحايا مضرجة بالدماء استشاط غضبا وأقسم على الانتقام، لكنه في الوقت الذي كان يستعد فيه في مصر والشام للقيام بحملة عسكرية كبيرة ضد عكا مات فجأة في نوفمبر تشرين الثاني من نفس العام

كانت الأيام التي ساد فيها السلام نتيجة للهدنة قبل ذلك أيام تجارة نشطة عادت على مصر بالأموال الوفيرة واستغل قلاوون الأمن الذي تمتع به البحر الأحمر واجتذب التجار من آسيا وأعلن عليهم منشورا جاء فيه:
"ومن يؤثر الورود إلى بلادنا الفسيحة أرجاؤها، الظليلة أفياؤها، فليعزم عزم من قدر الله له في ذلك الخير والخيرة. ويحضر إلى بلاد لا يحتاج ساكنها إلى مسيرة ولا ذخيرة، لأنها في الدنيا جنة عدن لمن قطن، ومسلاة لمن تغرب عن الوطن ونزهة لا يملها بصر: والمقيم بها في ربيع دائم وخير ملازم، ويكفيها أن من بعض أوصافها أنها شامة الله في أرضه. فمن وقف على مرسومنا هذا من التجار المقيمين باليمن والهند والصين والسند وغيرهم فليأخذ الأهبة في الارتحال إليها والقدوم عليها، ليجد الفعال من المقال أكبر، ويرى إحسانا يقابل في الوفاء بهذه العهود بالأكثر، ويحل في بلدة طيبة، وفي سلامة في النفس والمال وسعادة تحيي الآمال ولهم منا كل مايؤثرونه"


كانت الحياة الاجتماعية صاخبة نشطة مليئة بالحركة والحياة، وعاش المماليك طبقة ارستقراطية يحكمون البلاد ويتمتعون بقسم كبير من خيراتها دون أن يحاولوا الامتزاج بأهلها، لكن بعض فئات المصريين من التجار احتفطوا بمكانة مرموقة في المجتمع ومستوى لائق من المعيشة في حين ظل أغلب أهل البلاد من العوام والفلاحين يعيشون حياة البؤس والحرمان، وكذلك كان الحال في الشام، وقد دفعت التجارة في المجتمع الحضري الشامي السكان إلى الجنوح للاستقرار والهدوء ومسالمة المماليك وعدم المشاركة في الثورات ضدهم، في حين ظل البدو على حال عشائرهم..

يتبع....
(جميع الحقوق محفوظة باسم صاحبة المدونة)
(المراجع ستذكر في الحلقات المقبلة)

4 comments:

  1. جزيت خيرا ....فعلا سرد انيق وشيق

    ReplyDelete
    Replies
    1. أشكرك سيد مصطفى.. أرجو أن تستمتع بقراءة بقية القصة

      Delete
  2. رائع و سرد ممتع جدا بانتظار التتمة

    ReplyDelete