Saturday, November 29, 2014


(4)
الملك الأشرف ومعركة عكا

في الحلقة الأولى جاء ذكر المنصور قلاوون حاكم مصر، وعدم ثقته بابنه خليل وعدم رضاه عن تصرفاته وسلوكه الشخصي واعتقاده بأنه غير كفء لتولي عرش السلطنة ما جعله يرفض توقيع تقليد بتوليته الحكم قبل وفاته.. 

غير أن هذا الأمر لم يمنع تسلم خليل للملك، إذ إن الحملة العسكرية التي أعدها قلاوون للثأر من الفرنجة في عكا كانت تتطلب قيام سلطان جديد على وجه السرعة..  
فأدى الأمراء قسم الإيمان للسلطان الجديد الذي أطلق عليه لقب "الملك الأشرف".

ولم يخل الأمر من وجود شخصيات عارضوا وصول "الأشرف" للحكم.. ومما يحكى أنه عندما جلس على عرش السلطنة المملوكية في اكتوبر/تشرين الثاني 1290م 689هـ استدعى القاضي فتح الدين ابن عبد الظاهر صاحب ديوان الإنشاء إليه وسأله عن تقليده.. فأحضر القاضي التقليد وهو خال من توقيع قلاوون معتذرا بأن السلطان شغله أمر العدو عن التوقيع على التقليد. فقال السلطان: يافتح الدين، إن السلطان امتنع أن يعطيني فأعطاني الله، ورمى له التقليد.

اتصف الأشرف خليل بالكبرياء والقسوة، والافتقار إلى ظرف أبيه وحكمته.. لم يكن يهتم حتى لو قتل نفسا، جريا وراء وساوسه وأوهامه، فكان يأمر بالتضييق على أحد خصومه ثم لا يلبث أن يرضى عنه ويقربه، ثم يعيد الكرّة تارة أخرى ويقبض عليه ويعذبه، بل وربما تخلص منه.. غير أنه كان شجاعا مقداما، فلم يقتد بوالده إلا في أمر واحد، هو إصراره على الخروج لمقاتلة الفرنجة وإخراجهم من بلاد الشام..
أما أسوأ صفاته فكان قصر نظره السياسي.. إذ إنه لم يدرك شدة البأس وقوة الشكيمة التي كانت عند الأمراء، وقدرتهم على الدس لمن لا يردعهم ويوقرهم ويرعى حرمتهم من سلاطين مصر.. كما لم يتعظ بما حدث لأسلافه كالمظفر قطز وبركة خان.. فقام فور اعتلائه العرش بإبعاد الأمراء من أتباع أبيه عن مناصب الدولة، لينصب مكانهم شبانا قليلي الخبرة من أعوانه وسماره..  

هذا الأمر جعل أوضاع السلطان الاشرف خليل دائما غير مستقرة، وعرضت حكمه باستمرار للمنافسة التقليدية التي جرت في عهود معظم سلاطين المماليك من جانب كبار الأمراء.. وهكذا بدأت دسائس من قام باستبعادهم ضد حكمه..
كان نائب السلطنة الأمير حسام الدين طرنطاي يكن عداوة وبغضاء لخليل منذ أن كان وليا للعهد.. عز على الأمير حسام الدين ألا يفوز هو بالعرش بعد وفاة قلاوون مما جعله المرشح الأنسب عند الأمراء المستبعدين للمشاركة في التآمر ضد حكم الأشرف.. غير أن هذا الأخير علم بالأمر وقبض على طرنطاي وقتله وصادر أمواله وممتلكاته ونقل
ماتحويه خزائنه إلى بيت المال..


وعلى رغم كل شيء، فإن أهم ما يميز فترة حكم الملك الأشرف كانت معركة عكا، التي تستحق وقفة وشرحا وافيا..
مدينة عكا كانت تمتاز بسمعتها الدفاعية المشرفة منذ حروب صلاح الدين، وقد اهتم الفرنجة منذ أيامهم الأولى بتحصين أسوارها حتى صار يضرب بها المثل في مناعة حصونها. كانت عكا منفذا أساسيا من المنافذ الساحلية لمملكة الفرنجة التي تحكم بيت المقدس.

ولما سقطت مدن الفرنجة في أيدي المسلمين أيام بيبرس وقلاوون صارت عكا ملجأ لجميع الأجانب الذين هاجروا إليها من تلك المدن، لكن هذه العناصر المهاجرة المختلفة عاشت كجاليات مستقلة بشؤونها ولها حكوماتها الخاصة بها، وعلى هذا صارت عكا في أواخر القرن الثالث عشر مجموعة من الدويلات الصغيرة متناقضة المصالح، بعضها يعمل باسم ملك فرنسا والبعض الآخر باسم ملك انجلترا وآخرون باسم ملك بيت المقدس المقيم في قبرص.. وعلى الرغم من هذا فقد راقبت حكومة عكا الاضطرابات الداخلية في القاهرة واستغلت عدم الاستقرار فأرسلت وفدا برئاسة أحد أعيان عكا وعضوية فارسين وكاتب لطلب العفو من السلطان وإقناعه بالتخلي عن مهاجمة مدينتهم.. لكن خليل رفض الاعتذار ورفض استقبال الوفد وزج بأعضائه في السجن فلم يعد هناك مفر من القتال.

ولم يشأ السلطان الخروج في حملته العسكرية من دون احتفالات، أقام فيها حفلة ذكر وزع فيها العطايا على القضاة والفقهاء ثم خرج من القاهرة في شباط/فبراير 1291م 690هـ في طريقه إلى دمشق حيث وضع عياله وحريمه ثم غادر إلى عكا..

في هذه الأثناء أرسل الأشرف إلى جميع ولاة الشام وأمر بإمداده بما لديهم من وسائل النقل لحمل الذخائر والجنود إليه، ومن ثم موافاته إلى أسوار عكا..



وكان ممن انضم الى الجيش قوات حماة التي بلغت أمتعتها من الثقل أن استغرقت رحلتها إلى عكا شهرا كاملا. وقدر عدد أفراد القوات الإسلامية التي اشتركت في الحصار ب60 ألف فارس و160 ألفا من المشاة إضافة إلى عدد ضخم من آلات الحصار والضرب منها 92 منجنيقا من بينها منجنيق ضخم يسير على مئة عجلة سمي "المنصوري".

استبد الرعب بسكان عكا أمام هذا الحشد الهائل واستغاثوا بأوروبا الغربية فلم يتلقوا إلا عددا من الفرسان الانجليز أرسلهم الملك ادوارد، وعددا من الجنود أرسلهم ملك قبرص هنري الثاني.. فلم تجد الطوائف المتنازعة بدا من الاتحاد للدفاع عن المدينة، فبلغت جموع الفرنجة بين ثلاثين وأربعين ألفا منهم 800 فارس و14 ألفا من المشاة والباقي من العوام.

وصل جيش المماليك في شهر ابريل/نيسان وحاصر المدينة، واتخذت قوات حماة مكانها عند البحر وانتشرت باقي الفرق حول المدينة، ونصب السلطان خيمته تجاه برج المندوب البابوي على مسافة قريبة من الشاطئ.

وفي الجانب الآخر من مدينة عكا تمركز عموري أخو ملك قبرص عند زاوية يقع فيها برجا الملكين هنري الثاني وهيو، واتخذ الفرسان الفرنسيون والانجليز مواقعهم عن يمينه ثم قوات البنادقة والبيازنة (سكان بيزا)..


بدأت المعركة بضرب قوات المماليك أسوار عكا بالمنجنيق لكن سيطرة سكان عكا بقيت على البحر فظلت المؤن ترد بانتظام من قبرص رغم الافتقار إلى الأسلحة.

حاولت قوات الفرنجة القيام بهجمات ليلية فشنوا هجوما مفاجئا على معسكر قوات حماة لكن الهجوم فشل، وأدت هذه المحاولة إلى أسر بعضهم وارتد البعض الآخر على أعقابهم إلى داخل المدينة.. بعد ذلك قاموا بشن هجوم آخر فشلوا فيه أيضا.. وكان لهذا الفشل بالغ الأثر في روحهم المعنوية بشكل بالغ، فتوقفوا عن شن الهجمات وتولد بينهم شعور باليأس وأخذوا يدركون أن ليس لديهم ما يكفي من العساكر للدفاع عن الأسوار تجاه الأعداد الضخمة التي حشدها المماليك وصار الوقت في صالح المماليك.

غير أن المدد وصل في شهر مايو/أيار عندما وصل الملك هنري الثاني من قبرص برفقة مئة فارس وألفين من المشاة إضافة إلى قدر كبير من المؤن والإمدادات حملتهم أربعون سفينة، فجرى استقباله بكل مظاهر البهجة والسرور وأشعل السكان نيرانا لم يُر مثلها فرحا به وتشجعوا على الثبات والمقاومة، ولم يكد هنري يهبط على الأرض حتى تولى القيادة فاثار ذلك حماسة في المدافعين.


أجرى هنري محاولة في البداية للتفاهم مع السلطان سعيا منه لإعادة السلام فأرسل رسولين طلبا عقد هدنة ووعداه بإنصاف كل شكوى. استقبلهما السلطان خارج خيمته واستلم منهما الرسالة وسألهما: ألم تحضرا معكما مفاتيح المدينة؟ فلما أنكرا قال: ذلك هو مطلبي.. فما كان منه في المقابل إلا أن وعدهما بتأمين خروج جميع الأجانب من عكا ومعهم أموالهم اذا استسلموا ولم تؤخذ المدينة عنوة.

عندما فشلت المفاوضات قرر الملك هنري الثاني الدفاع عن عكا حتى النهاية رغم الصعوبات التي تمثلت في قلة المدافعين وتجدد النزاعات الداخلية بين بعض الفصائل وقلة التجهيزات.
نجح رجال السلطان في إحداث ثقوب في الأبراج أشعلوا فيها النيران حتى أخذت بالتداعي، ثم شق المماليك طريقهم إلى داخل الخرائب التي أحدثها الضرب المتواصل وأجبروا المدافعين على التقهقر إلى الخط الداخلي من الأسوار. 

بعد ذلك أصدر السلطان أمرا بشن هجوم عام على امتداد الأسوار غير أن التركيز كان على القلعة التي دافع عنها الملك هنري الثاني وقواته، واندفعت الفرق العسكرية المملوكية الواحدة تلو الاخرى وهم يهتفون بصيحات الحرب المرعبة، ترافق ذلك مع إحداث الضجيج المنبعث من الطبول، فأثار ذلك الرعب والخوف في نفوس المقاتلين الفرنجة.. ولم يمض وقت طويل حتى شق المماليك طريقهم إلى القلعة وأجبروا حاميتها على التراجع والخروج ثم دخلوها واستقروا داخل المدينة.


ودار قتال عنيف في الشوارع والأزقة فغادر الملك هنري عكا هاربا مع قواته وفرسانه وشاعت الفوضى في المدينة واندفع العساكر والسكان إلى الميناء وتزاحموا على القوارب يلتمسون الوصول إلى السفن الراسية قبالة الشاطئ، لكنها لم تكن كافية مما أعجزها عن إنقاذ جميع اللاجئين، كما غرق بعضها بسبب ثقل الحمولة. وقتل وأسر عدد ضخم من سكان عكا، وكان آخر موقع استسلم هو دار الداوية (فرسان المعبد) الضخم البارز في داخل البحر في الجهة الشمالية الغربية من المدينة وكان قد لجأ إليه من بقي على قيد الحياة، وظل المدافعون يقاومون حتى تداعت أساسات البناء وانهار.

أما من لزموا بيوتهم فقد بيعوا كرقيق فوصل ثمن الفتاة في سوق الرقيق في دمشق إلى درهم لوفرة أعدادهم.

وبمجرد أن سيطر المماليك على عكا في شهر مايو/أيار 1291م امر السلطان بتدميرها كي لاتبقى رأس حربة لما قد يقوم به الأعداء من هجمات على بلاد الشام.

وخيم السكون على امتداد الساحل الذي ظل زمنا طويلا ميدانا يُسمع فيه صليل سيوف القتال.

بهذا الحماس الدافق حاول السلطان خليل أن يستغل الظرف وينتقل إلى محاربة المغول فطلب من الخليفة الحاكم بأمر الله إعلان الجهاد العام على المنابر، ثم خرج بجيوشه نحو الحدود الفراتي واستولى على قلعة الروم من أيدي التتار وغير اسمها إلى قلعة المسلمين ثم أعلن على الملأ نيته طرد المغول من العراق وإرجاعهم إلى مواطنهم.

وعندما أراد "أرغون خان" وهو أيلخان مغول فارس السخرية من دعايات الأشرف خليل أرسل إليه خطابا يطلب منه تسليم مدينة حلب للإقامة فيها كما كان يفعل ايلخانات فارس من قبل. فرد عليه السلطان خليل بخطاب مثله مطالبا هو الآخر بتسليم بغداد للإقامة فيها أيضا وإعادة الخلافة العباسية إليها. 
لكن القدر كان يرسم خطا آخر.

في الحلقة المقبلة: الاضطرابات والدسائس والانقلابات بين أمراء المماليك في مصر

هذه السلسلة بدأت أواخر عام 2010 كفكرة لمسلسل درامي تاريخي.. وقد تحدثت بشأنها مع بعض صناع الدراما، كما تحدثت مع الشيخ وليد الابراهيم مالك مجموعة إم بي سي الذي أعجب بها وحولني إلى مدير الإنتاج الدرامي في المجموعة للتنسيق معه، وقمت بتسجيلها قانونيا باسمي.. إلا أن اندلاع الثورات العربية وتلاحق الأحداث وعملي في أخبار العربية حينها شغلني عن المتابعة، إضافة إلى أن الإسقاط التاريخي الواضح في أحداثها على منطقتنا دفعني للانتظار كي أرى نتيجة الثورات.. وبعد أن طال الزمن وخرج مسار الأحداث عن المنطق والخيال ولم يعد ممكنا التنبؤ بالنهاية، قررت نشر السلسلة على مدونتي، لكنها لا تزال تصلح قصة لمسلسل تاريخي ضخم الإنتاج فيما بعد.. يذكر أن هذه الأحداث موثقة تاريخيا وفق عدة مراجع وكتب علمية، ولا يدخل الخيال في تفاصيلها..

حقوق المادة المكتوبة محفوظة

Tuesday, November 25, 2014

(3)
صراع الروم واللاتين


مثل جميع الأقوام، يتصارع الغربيون أيضا.. والخلاف بين الروم واللاتين متجذر وعميق.. والمناوشات بينهما تشتعل نتيجة تناقضات عقائدية بينهم وأحيانا لأطماع شخصية وإقليمية... حروب الفرنجة بين أوروبا والعالم الاسلامي في القرن العاشر الميلادي زادت هوة العداء بين البيزنطيين واللاتين، وعندما عجز امبراطور القسطنطينية عن منع ملك الألمان من العبور عن طريق عاصمته لكثرة أعداد قواته ما كان منه إلا أن منع الإمداد والتموين عنهم.
في الواقع وقفت الدولة البيزنطية من الحروب الصليبية منذ البداية موقفا جعل دول غرب أوروبا تنظر لها على أنها لا تريد لهم أن ينتصروا أو أن تتحقق أطماعهم في المنطقة.. 
وأثناء غزو اللاتين لبلاد الشام كانت فكرة خلع امبراطور القسطنطينية وإخضاع الامبراطورية الشرقية لحكمهم بالقوة حاضرة في مخططاتهم، حيث أبدت البابوية استعدادها لهذا وكذلك عمل تجار البندقية على تخريب القسطنطينية وبيزنطة اقتصاديا ونهبوها.

صورة من الحملات الصليبية


في شهر يناير/كانون الثاني من عام 1204م انفجرت ثورة في العاصمة البيزنطية وعندها تحولت الحملة الصليبية الرابعة عن أهدافها فاحتلت القسطنطينية وأخضعت الامبراطورية البيزنطية بالقوة..

الغربيون اللاتين نهبوا القسطنطينية ودمروها وأزالوا العرش الامبراطوري البيزنطي وهم في طريقهم إلى بيت المقدس، ودخلوا المدينة فهرب ملكها، ثم سرقوا الأموال وأخذوا الذهب وفتكوا بالروم ونهبوا آيا صوفيا وقتلوا من التجأ إليها ومن كان فيها.

بعد ذلك قسمت ممتلكات الدولة، ونصّب الزعماء امبراطورا فيما بينهم وهو "بلدوين" بطريارك بيت المقدس اللاتيني، فأصبح أمر الكنيسة البيزنطية في يد البنادقة الذين أخذوا ثلاثة أثمان القسطنطينية وكثيرا من المدن والجزر منها مدينة أدرنة وجزيرة كريت وكان الحي الذي تقوم فيه كنيسة آيا صوفيا من نصيبهم. وأقيمت مملكة في مقدونية وتراقية على أن يعترف ملكها بتبعية إقطاعيته للامبراطور.

بيزنطة إذن كانت محتلة إن صح التعبير من قبل الغربيين لفترة من الزمن.. وبطبيعة الحال، فإن امبراطورية لاتينية موزعة جغرافيا بهذا الشكل لم يكن مقدرا لها أن تستمر طويلا، بالأخص مع العداء الشديد المستحكم بين الحكام اللاتين والمهزومين البيزنطيين..
البابوية في روما كانت تستهدف في ذلك الوقت توحيد الكنيستنين على مذهبها قبل أن تجتاح العالم الإسلامي في ظل ظروف لم تبد ملائمة.. أما اجتماعيا فإن التنظيم الإقطاعي اللاتيني كان مختلفا عن النظام الاجتماعي والاقتصادي في بيزنطة ولم يكن ممكنا تطبيق النظام اللاتيني في مناطق البيزنطيين التي تمت السيطرة عليها، إذ إن الإقطاعية والمحلية في الغرب أضعفت من سلطة الحكومة المركزية، في حين كانت الدولة البيزنطية بيروقراطية الصبغة والطابع، مركزية الحكم والإدارة.. إضافة إلى ذلك، كان نظام الشرق تجاريا يسود فيه الاقتصاد النقدي والمالي، بعكس نشاط الغرب الزراعي الإقطاعي.. 
خريطة القسطنطينية اللاتينية وامبراطوريات المنفى

لهذا قامت حركة قومية تستهدف طرد الغربيين من البلاد وتكونت في "نيقية" في آسيا الصغرى عام 1206 امبراطورية بيزنطة في المنفى على رأسها صهر الامبراطور المخلوع الكسيس الثالث وكان اسمه "تيودور الأول لاسكاريس"، أما العرب فكانوا يسمونه "الاشكري" على عادتهم في إعطاء الألقاب لأباطرة بيزنطة.
كما تكونت امبراطورية ثانية في المنفى في طرابيزون على البحر الأسود وعلى رأسها سيدة من أسرة كومنين، فضلا عن إمارات بيزنطية تكونت في جهات لم تصل إليها الحملة الرابعة.
هذه الحكومات التي تشكلت في المنفى كانت مصدر متاعب وقلاقل للاتين في القسطنطينية، أضيف إليها الدولة البلغارية التي انقلبت على اللاتين بعد أن أهملوا شأنها كونهم لا يهتمون بالبلقان كثيرا.

السبب الوحيد الذي جعل اللاتين يبقون طويلا في القسطنطينية هو المنافسة الحادة التي كانت تجري بين حكومتي المنفى، غير أن التنافس تراجعت حدته مع الزمن وتحالف البلغار مع نيقية في زمن ملكهم حنا آسين، فانحصرت امبراطورية اللاتين بين امبراطورتين متحالفتين ضدها.

وحدها البندقية التي كانت لها مصالح جمة في القسطنطينية صمدت وحاولت بكل السبل الدعم والمساندة، على عكس أوروبا التي لم تهتم كثيرا بنداءات الامبراطور اللاتيني، كتلك الحادثة التي جرت في قبرص..
فقد كان لويس التاسع ملك فرنسا يعد العدة للهجوم على مصر، وفي طريقه لتحقيق هدفه أثناء إقامته في جزيرة قبرص وفدت إليه الامبراطورة ماري، زوجة بلوين الثاني امبراطور القسطنطينية اللاتيني وطلبت منه ومن كبار الغربيين المساعدة لتعزيز مركز زوجها المزعزع، غير أنها لم تلق إلا العطف والوعود الخلابة التي ذهبت أدراج الرياح فور مغادرتها الجزيرة..

بعد "تيودور لسكاريس" (الاشكري) تولى الامبراطورية البيزنطية في نيقية عام 1212 الامبراطور "دوكاس فاتاتزيس"، وكان أول ما فعله هو أن تحالف مع البلغار ثم أخرج اللاتين من آسيا الصغرى عام 1241.. بعد ذلك عمل على استمالة امبراطور ألمانيا فريدريك الثاني بزواجه من ابنته سنة 1244..
كانت البابوية حينها في صراع عنيف مع الامبراطور الألماني على مسائل دنيوية، فقد كان الامبراطور يكره الجمهوريات الايطالية بما فيها البندقية، وهذا ما جعل مساعدته مهمة.

ومرة ثانية تأخرت نهاية الامبراطورية اللاتينية في بيزنطة بسبب خلافات البيزنطيين بين بعضهم البعض.. فقد وقع خلاف شديد بين الطامعين في العرش البيزنطي بعد نهاية حكم فاتاتزيس سنة 1254م.. ولم يضع حلا لهذا الخلاف إلا "ميخائيل الثامن باليولوغس" الذي تولى عرش نيقية واستطاع أن يعبر البحر إلى ضواحي القسطنطينية عام 1261 وأن يمهد للاستيلاء عليها.. وقد استخدم ميخائيل أسلوب إيقاع العداوة بين الحلفاء للوصول إلى أهدافه، فما كان منه إلا أن أثار البنادقة والجنويين على بعضهم البعض، وتحالف مع جنوة بعد أن وعدها بامتيازات يسيل لها اللعاب.. بهذه الطريقة فقط حدث الهجوم على القسطنطينية وهرب الامبراطور اللاتيني والبطريرك وممثلي البندقية عام 1261، ودخل ميخائيل العاصمة في شهر أغسطس/آب من نفس العام.

صورة البابا الفرنسي أوربان الرابع
29/8/1261- 2/10/1264

بطبيعة الحال، أثار هذا غضب البابا، فحرض زعماء الغرب وعدّ مخايل خارجا على الكنيسة النصرانية. لكن هذا الأخير 
حاول مصالحة البابا وعرض عليه توحيد الكنيستين، غير أن البابا توفي وتسلم مكانه آخر أشد كرها للروم فأصدر قراره بحرمان الامبراطور مخايل بشكل كامل..

مخايل توفي وهو يحاول العودة إلى الكنيسة البابوية، فازدادت الهوة عمقا بين الكنيستين وتمكن العثمانيون أثناء هذه الأحداث المنهكة من اجتياح كثير من الأراضي الامبراطورية التي لم يبق منها سوى ظل باهت وشبح متهالك، غير قادر على مقاومة الدولة العثمانية الفتية، يضاف إلى ذلك عامل آخر يساهم في ضعف أي دولة كبرى، وهو أن بعض القوى البيزنطية بقيت منفصلة عن جسم الامبراطورية.
وهكذا، عندما شرع الأتراك بتسجيل انتصاراتهم العسكرية وتهديد الأراضي البيزنطية تدفقت أعداد غفيرة من اللاجئين إلى القسطنطينية والساحل وسببت مشكلات جديدة للدولة البيزنطية.

كان عثمان قضى على الامبراطورية البيزنطية في أوروبا عام 1302م عندما ألحق هزيمة بالجيش البيزنطي قرب "نيكوميدي" (إزميت حاليا) على بحر مرمرة، 
ومقابل ذلك استخدم "اندرونيكوس" امبراطور القسطنطينية مجموعة مرتزقة إسبان من شركة "قطلان" كانت حاربت سابقا في صقلية للقيام بشن هجوم ناجح على الأتراك في الأناضول، غير أن هؤلاء المرتزقة انقلبوا ضد سادتهم عندما اغتيل قائدهم وانتقلوا إلى جزيرة غاليبولي وحولوها إلى قاعدة لشن غارات السلب والنهب، فما كان من العثمانيين إلا أن أجلوا عن غاليبولي بعد سنة، فانخفضت قيمة العملة الذهبية البيزنطية بعد ذلك وتحمل الشعب أعباء الضرائب الفادحة دفع المزارعون فيها العبء الأكبر، وأدى تعويم العملة ورفع الأسعار إلى مجاعة محققة وعجز وفقر مدقع في أنحاء المملكة.. هذا الحال لم يشمل القسطنطينية التي كان سكانها يتزايدون بفعل اللجوء، حيث وجد الجشع والاحتكار والاتجار بالسوق السوداء طريقه إلى نفوس التجار ضعيفي النفوس في البلاد.


بصورة عامة، حكمت بيزنطة رغم انتقاص مساحاتها لمدة تقارب القرنين من الزمن من قبل أسرة باليولوجية، تخلفت الزراعة فيها وتشكل قوام المجتمع من مطارنة لا يهتمون إلا بالشكليات ورهبان وملاك ومزارعون مستأجرون وفلاحون هبطوا إلى مستوى العبيد للأرض.

وكان لا بد وأن ينفجر الوضع يوما ما والحال كذلك.. فتفجرت المشكلات في القسطنطينية عام 1320م عندما حرم أندرونيكوس الثاني حفيده أندرونيكوس الثالث من وراثة العرش لأسباب عائلية. ورفض أصدقاء الامبراطور الصغير هذا الإجراء وأدى الأمر إلى نشوب صراع مدة سبع سنوات حتى عام 1328م اضطر بعده الامبراطور العجوز للتنازل عن الحكم لحفيده.
وفي فترة حكم اندرونيكوس الثالث بين 1328 و 1341م انتصر الأرستقراطيون وتجسدت آمالهم فأصبحت لهم اليد الطولى في توجيه دفة الحكم والسياسة، لكن عصره شهد خسارة معركة حربية قرب نيكوميدي أمام اورخان العثماني.

شعار جيش الأسرة الباليولوجية
وآثار فترة الامبراطور ميخائيل الثامن

بهزيمته، اختار الامبراطور قبول الواقع الصعب وأعلن دعمه الواسع للعثمانيين ووجه اندرونيكوس وكانتاكوزين الدعوة لأعداد غير محدودة من الجنود الأتراك كي تقاتل معهما ضد أعدائهما الإيطاليين في جزر بحر إيجة والصرب والبلغار ومكدونيا وتراقيا.
في غضون ذلك، خطط اندرونيكوس الثاني للسيطرة على الصرب دبلوماسيا لكن دوشان الذي تسلم عرش صربيا عام 1331م استغل ضعف الامبراطورية وأعلن رغبته في تنصيب نفسه ملكا وامبراطورا للصرب واليونان، ومن ثم ابتلع دوشان كامل اليونان الشمالية وضمها لامبراطوريته.
بعد ذلك قامت ثورة سالونيك عام 1341م 741هـ وطردت رجال الطبقة الارستقراطية وأقامت جمهورية ونهبت القصور لمدة ثماني سنوات.
غير أن القسطنطينية استمرت تشغل مركزها التجاري المرموق رغم البيوت المتهدمة وأطلال القصور الخاوية، وامتزج في ذلك الوقت التراث اليوناني بالفلسفة البيزنطية الشرقية من حيث العمارة والتصوير. وكرست المدارس فكر أفلاطون وأرسطو، كما مد جسر ثقافي بين بيزنطة وإيطاليا ظهرت نتيجته مؤلفات تارخية وشعرية متميزة.
كانت سفن جنوة والبندقية تسيطر على البحر الاسود وعندما أقيمت جمهورية اللصوص القطالونيين في أثينا كان البابا يتآمر مع فرنسا ونابولي والبندقية محاولا استرجاع القسطنطينية لكنه فشل.

في الحلقة المقبلة: عهد الملك الأشرف في مصر والشام ودسائس المماليك في الحكم
(ملاحظة: بعض الروابط في هذه الحلقة أوسع شرحا بالانجليزية منها باللغة العربية ولهذا تم الاستعانة بها في شرح معلومات أندرونيكوس وتاريخ القسطنطينية) 

Saturday, November 22, 2014


(2)
أركان دولة عثمان
وبداية حروبهم مع بيزنطة


مقدمة:هذه السلسلة بدأت أواخر عام 2010 كفكرة لمسلسل درامي تاريخي.. وقد تحدثت بشأنها مع بعض صناع الدراما، كما تحدثت مع الشيخ وليد الابراهيم مالك مجموعة إم بي سي الذي أعجب بها وحولني إلى مدير الإنتاج الدرامي في المجموعة للتنسيق معه، وقمت بتسجيلها قانونيا باسمي.. إلا أن اندلاع الثورات العربية وتلاحق الأحداث وعملي في أخبار العربية حينها شغلني عن المتابعة، إضافة إلى أن الإسقاط التاريخي الواضح في أحداثها على منطقتنا دفعني للانتظار كي أرى نتيجة الثورات.. وبعد أن طال الزمن وخرج مسار الأحداث عن المنطق والخيال ولم يعد ممكنا التنبؤ بالنهاية، قررت نشر السلسلة على مدونتي، لكنها لا تزال تصلح قصة لمسلسل تاريخي ضخم الإنتاج فيما بعد.. يذكر أن هذه الأحداث موثقة تاريخيا وفق عدة مراجع وكتب علمية، ولا يدخل الخيال في تفاصيلها..

أورخان:
بورصة، هذه المدينة التركية المهمة آنذاك سقطت عام 1326م على يد جيش قاده أورخان ابن عثمان، الذي هرول إلى والده ليزف له الخبر لكن عثمان كان على فراش الموت بعد مرض ألم به ولم يلبث أن توفي عن ثمانية وستين عاما تاركا من الأولاد ستة وبنتا واحدة هي فاطمة خاتون، وقد أوصى لابنه أورخان وصية جاء فيها:
يابني: إياك أن تشتغل بشيء لم يأمر به الله رب العالمين وإذا واجهتك معضلة في الحكم اتخذ مشورة علماء الدين موئلا. يابني أحط من أطاعك بالإعزاز وأنعم على الجنود ولا يغرنك الشيطان بجندك وبمالك وإياك أن تبتعد عن أهل الشريعة. يابني: إنك تعلم أن غايتنا هي إرضاء الله رب العالمين وأن بالجهاد يعم نور ديننا كل الآفاق فابحث عن مرضاة الله جل جلاله. يابني لسنا من هؤلاء الذين يقيمون الحروب لشهوة حكم أو سيطرة أفراد، فنحن بالإسلام نحيا وبالإسلام نموت وهذا ياولدي ما أنت أهل له.

العثمانيون يعتبرون عثمان سلطانهم الاول، فهو أول من راوده حلم إرساء قواعد دولة مترامية الأطراف، ورغم بساطة مظهره فقد كانت طلعته توحي بالهيبة وكان يطلق عليه اسم عثمان الأسود لما في اللون الأسود في الشرق من احترام باعتباره رمزا لقوة الشخصية والحيوية الجسمانية.

وكي نقف على تطورات الأحداث من دون أن نشعر بنقص في المعلومات، وكي يكتمل إطار الصورة التاريخية، لا بد لنا من الوقوف في محطة سريعة نعرض الخطوات التي تأسست بناء عليها أركان دولة عثمان..
بعد وفاة عثمان خلفه ابنه أورخان وهو في الأربعين من عمره، وكان أورخان طويل القامة أشقر اللحية أزرق العينين رقيق الفؤاد شفوقا على الضعفاء حليما مع الأعداء وفي الوقت نفسه شديدا عند المحن وباسلا في القتال وعند المناسبات. كان عطوفا على الفقراء يكرم العلماء شديد التدين وعادلا..وكان معروفا بحسن الخلق واللطف، وكانت النساء اللاتي يتظلمن إليه يلاطفهن بالكلام وينعم عليهن بما يسر خواطرهن فمالت إليه قلوب الناس، عاش في أوساط الجماهير وأكل معهم وتكلم وإياهم وأصغى إلى شكواهم، وكان متسامحا مع غير المسلمين وودودا في التعامل وإياهم.. لم يحاول فرض الإسلام عليهم أبدا، لكنه أصدر قرارا بتوفير نظام مكافآت للخدمة العسكرية التي اقتصرت على المسلمين، وأعلن أن جزءا كبيرا من الأراضي التي يتم الاستيلاء عليها خارج المدن سيوزع على الجنود الذين شاركوا في القتال.
المسيحيون كانوا يعفون من الخدمة العسكرية مقابل دفع الجزية التي كانت تكرس حصيلتها للإنفاق على القوات المسلحة التي كانت تدافع عن الجميع، أما من اختار اعتناق الإسلام فكان على الفور يكتسب صفة عثماني.

بازدياد قوة العثمانيين وبدء فترة الحروب الكبرى لجأوا إلى وسيلة تكفل وجود عناصر شديدة الولاء للدولة تدافع عن حدودها، هذه الوسيلة هي "الدوشرمة"..
الدوشرمة هي مجموعة من أطفال غير مسلمين يقال إنهم الأفضل في الذكاء والقوة البدنية كانوا ينتزعون من أهاليهم في المناطق التي يتم غزوها، ويتم إعدادهم للمهام الإدارية والقتالية بعد تحويلهم إلى الإسلام، منهم جاء نظام الانكشارية الشهير. وقد ملأ أطفال الدوشرمة صفوف الانكشارية وقوة الخيالة النظاميين ومنهم من أصبح من كبار موظفي الدولة. وقد شكل أطفال الدوشرمة قمة جهاز الحكم وسيطروا على الأتراك ذاتهم.
أما فرقة الانكشارية (يني غري أو الجيش الجديد) فقد جرى إنشاؤها في عهد أورخان، ولإطلاق هذا اللقب قصة تقول: إن الدرويش حاجي بكتاش الذي اشتهر بورعه (كان للدراويش المتدينين والعلماء مكانة خاصة ومرموقة عند العثمانيين) اصطحب له أورخان الدفعة الاولى من المجندين في مسكنه ورجاه أن يباركهم ويخلع عليهم اسما، فوضع بكتاش كمّه فوق رأس أحد الواقفين في الصف الاول وقال للسلطان: إن القوات التي أنشأتها ستحمل اسم يني غري وستكون وجوههم بيضاء وضاءة، وستكون أذرعهم اليمنى قوية وسيوفهم بتّارة وسهامهم حادة، وسيوفقون في المعارك ولن يبرحوا ميدان القتال إلا وقد انعقدت لهم ألوية النصر....
وتخليدا لهذه البركة التي منحها بكتاش كان الانكشارية يضعون على رؤوسهم قلنسوة من اللباد الابيض، شبيهة بقلنسوة الدراويش، تتدلى منها من الخلف قطعة من الصوف باعتبارها رمزا لكمّ الولي الذي بارك به زميلهم.

كان أورخان يبلغ من العمر خمسة عشر عاما عندما اشترك في المعارك وأمضى بعد ذلك معظم عمره في ساحة القتال.. يقول عنه الرحالة ابن بطوطة الذي التقى به:
"هذا السلطان هو أكبر ملوك التركمان وأكثرهم مالا وبلادا وعسكرا، له من الحصون ما يقارب مئة حصن وهو في أكثر أوقاته لا يزال يطوف عليها، ويقال إنه لم يقم قط شهرا كاملا في بلده، كان يقاتل الأعداء ويحاصرهم"
 وسع أورخان مساحة الدولة العثمانية من 16 ألف كم مربع إلى 95 ألف كم مربع أثناء حكمه وقاد الجيوش كرأس للدولة، وله من الأبناء خمسة هم سليمان ومراد وابراهيم وخليل وقاسم وابنة واحدة هي فاطمة..
أصبحت بورصة في عهده عاصمة الدولة، حيث التفت خلال حكمه الذي امتد خمسة وثلاثين عاما إلى التنظيمات الضرورية وسن القوانين بمساعدة رجال حكومته ومنهم القاضي "جندره لوقره خليل" الذي بدأ بضرب السكة العثمانية وجعل للمأمورين والأمراء والعساكر وطبقات الأهالي ملابس مخصوصة..
وعندما رأى السلطان أن جيوشه المؤلفة من فرسان التركمان والرعية المتطوعين للحرب لا نظام لهم ولا معرفة لهم بقوانين الضبط أخذ يرتب العساكر النظامية ووضع لهم قانونا للتربية وأنشأ طائفة الانكشارية او اليكيجاري، وبلغ من دقة التنظيم في اختيار وتدريب الجند الانكشارية أن أصبح جيشهم في مرتبة أفضل الجيوش التي عرفها العالم آنذاك، فهم دائما رهن إشارة السلطان الذي رباهم وعلمهم ورقاهم، فكانوا مخلصين مطيعين صبورين على الشدائد..
وتميز الفرسان الذين شكلوا نواة الجيش بخفة الحركة والمهارة وقد خاف الأعداء سطوة هذا الجيش الذي لم يقف في طريقه شيء، كان سلاحه خفيفا يتكون من القوس والنشاب والرمح الخفيف والسيف القصير والمجن الصغير. ولم يكن للخمر أو الميسر أو البغاء مكان في هذا الجيش الذي كانت روح الجهاد عامرة في نفوس ابنائه.

Wednesday, November 19, 2014

نشأة الدولة العثمانية
وانهيار الحكم في بلاد الشام ومصر
(1) 

مقدمة:هذه السلسلة بدأت أواخر عام 2010 كفكرة لمسلسل درامي تاريخي.. وقد تحدثت بشأنها مع بعض صناع الدراما، كما تحدثت مع الشيخ وليد الابراهيم مالك مجموعة إم بي سي الذي أعجب بها وحولني إلى مدير الإنتاج الدرامي في المجموعة للتنسيق معه، وقمت بتسجيلها قانونيا باسمي.. إلا أن اندلاع الثورات العربية وتلاحق الأحداث وعملي في أخبار العربية حينها شغلني عن المتابعة، إضافة إلى أن الإسقاط التاريخي الواضح في أحداثها على منطقتنا دفعني للانتظار كي أرى نتيجة الثورات.. وبعد أن طال الزمن وخرج مسار الأحداث عن المنطق والخيال ولم يعد ممكنا التنبؤ بالنهاية، قررت نشر السلسلة على مدونتي، لكنها لا تزال تصلح قصة لمسلسل تاريخي ضخم الإنتاج فيما بعد.. يذكر أن هذه الأحداث موثقة تاريخيا وفق عدة مراجع وكتب علمية، ولا يدخل الخيال في تفاصيلها..


تبدأ أحداث هذه السلسلة عام 1281م/680هـ، عندما توفي أرطغرل بن سليمان شاه عن عمر ناهز التسعين عاما.. فكان أن حزن السلطان علاء الدين الرومي السلجوقي عليه وعين مكانه ولده عثمان لما رأى فيه من حزم واجتهاد وسير على خطى أبيه في الغزو والجهاد.
عثمان كان ذا شخصية جذابة تغري الآخرين بخدمته، تحلى بالجلد والمثابرة وضبط النفس والهيبة واتصف بالتسامح. كان موهوبا ونال إجماع القادة لحسن سيرته وحنكة إدارته عندما تولى زمام الامور، في عمر لم يتعد الثلاثة والعشرين ربيعا.. امتاز بالقوة الجسدية والروحية وشدة البأس في القتال، وكان عريض الصدر مقطب الجبين، طويل الجذع عريض المنكبين، بيضوي الوجه أزرق العينين حنطي البشرة.

أطلق عثمان على نفسه لقب بادشاه آل عثمان، وبادشاه تعني خادم الشاه لأن العثمانيين كانوا يستثقلون إطلاق لقب الشاه على أنفسهم، وانتقل عثمان بإمارته من إمارة حدودية إلى دولة مستقلة بكل مقوماتها لها عاصمة وأهداف محددة وشعب ، فبنى أركان سلطته على أساس العدالة، وعندما وصلت دولته إلى يني شهر (المدينة الجديدة) أعلنها عاصمة لملكه، وباعتبار أن دولة قرمان التي قامت على أنقاض دولة السلاجقة كانت قوية جدا رأى عثمان أن الاصطدام بها محفوف بالمخاطر فوضع نصب عينيه توسيع رقعة إمارته على حساب البيزنطيين..
منذ ذلك الحين أصبح العثمانيون القوة الرئيسية التي تصون حمى الإسلام في هذه البقعة من العالم، ساعدهم في ذلك فساد شبكة دفاعات العدو البيزنطي والمشكلات الاقتصادية والاجتماعية والدينية التي كانت نتخر في جسم أعدائهم، فبدأوا يدخلون بوابة التاريخ باقتدار.

كان الفساد والضعف ينخر في جسم المملكة الرومية وكانت أحوال ولاياتها غير منتظمة، وكان كل حاكم من حكامها يستبد في ولايته حسب رغبته ومشتهاه، فاستغل عثمان هذه النقطة وأخذ بإلقاء بذور العداوة والشحناء بين جموعهم حتى استطاع الاستيلاء على ولاياتهم. ومن القصص التي تذكر عنه أنه استغل يوما حفلة عرس كانت تجري في أرض للبيزنطيين وبالحيلة أوقع بأعدائه واختطف العروس  وزفّها لابنه أورخان خان وهي السيدة نيلوفر صاحبة الآثار الخيرية التي لا تزال تنسب إلى اسمها بجانب بورصة وقد ولدت له سليمان وخداوند كار مراد، هذه العروس البيزنطية المختطفة ستكون والدة مراد الأول الذي سيبني الدولة وفي عهده سيرفع العلم التركي الذي سيستمر كما نعرفه حتى الزمن الحاضر، وستفتح له أبواب أوروبا عبر البلقان فيما بعد وسيمهد لسقوط بيزنطة بعد فترة من الزمن. المؤرخون يتفقون على أن استقلال العثمانيين الفعلي كان عام 1299 ميلادي.

كان المماليك البحرية الذين ينتسب إليهم الظاهر بيبرس بطل معركة عين جالوت يحكمون مصر والشام والحجاز، وكان من أعظم سلاطينهم سيف الدين قلاوون الذي حكم بين عامي 1279 و 1290 وهو شخص ذو نزعات سلطوية وحاد الذكاء، يقال إنه كان حليما عفيفا في سفك الدماء مقتصدا في العقاب كارها للاذى، وإنه كان رجلا مهيبا شجاعا

كما يقال إنه كان محبا لجمع المال لكن كثيرا من الاموال التي جمعها أقام بها مدارس وبيمارستانات (مستشفيات) وجدد بها قلاعا كثيرة في الشام، كما أنه لم يهدأ في حروبه ضد المغول والفرنجة. وسنرى كيف وضع البذرة الأولى لإخراج بقية الفرنجة من سواحل بلاد الشام نهائيا قبل أن يعودوا عبر الاستعمار الغربي في القرن العشرين.



ولكي يثبت قلاوون حكمه طلب من أمراء المماليك الموافقة على تولية ابنه علاء الدين ولقبه "الملك الصالح" من بعده، لكن علاء الدين مات في حياة ابيه عام 1288 فحزن قلاوون حزنا شديدا عليه، وكان المرشح الذي يليه لولاية العهد هو الابن الثاني خليل الملقب "الملك الأشرف" غير أن السلطان رفض التوقيع على نسخة توليه التي كتبها القاضي ابن عبد الظاهر وقال:  "ما أولّي خليلا على المسلمين" والسبب هو عدم ثقته فيه واعتقاده بأنه غير مؤهل لإدارة شؤون الحكم فقد كان خليل يتصف بالقسوة وعدم التدين كما اتُهم بدس السم لأخيه علاء الدين، وكان السلطان يرتاب في سلوكه الشخصي وسوء سيرته تجاه الأمراء الذين نفروا منه لاستهانته بهم، وقد توفي قلاوون دون أن يوقع العهد لابنه خليل لكن ذلك لم يمنع من أن يؤول إليه الملك بعد ذلك، على رغم أن حكمه ظل محفوفا بالدسائس والمخاطر.

ولأن السلطان قلاوون كان لا يثق بالمماليك البحرية بسبب دسائسهم أنشأ قوة من المماليك الجراكسة وهو عنصر من أصل قوقازي يعيش قرب شواطئ البحر الاسود أغلب أفراده يتصفون بالشعر الأشقر والعيون الزرق وقوة البدن والشجاعة، تواجدوا بأعداد كثيرة في الأسواق بسبب تعرض بلادهم لغزوات المغول وكانت أسعارهم أرخص من بقية المماليك، وقد عمل قلاوون على الإكثار من شراء هذا العنصر حتى أضحى عددهم ثلاثة آلاف وسبعمئة في أواخر أيامه وأنزلهم في أبراج قلعة القاهرة ومنعهم من مغادرتها ولهذا أطلق عليهم اسم المماليك البرجية أما اسم المماليك الشراكسة فقد جاء فيما بعد. كما عني قلاوون بهؤلاء المماليك الشقر وألبسهم زيا جديدا وعلمهم أصول الدين ودربهم على استخدام الرماح ورمي النشاب، وظل أبناء قلاوون على عهده في رعاية المماليك الجدد الذين سيؤول إليهم الحكم بعد مئة عام، عندما تنهار دولة المماليك البحرية.

Tuesday, November 18, 2014


يسألونك لماذا الثورة..


أسير في شوارع المدن الأوروبية فأرى كل شيء يسير بانتظام، الجميع يحترم القوانين، السيارات تقف للمشاة وهؤلاء يقفون للسيارات التزاما بإشارات المرور، لا يوجد شرطة مرور فالجميع يعرف قواعد السير.
الناس تبتسم في وجهك من دون أن تعرفك (في الإسلام: تبسمك في وجه أخيك صدقة)..
أرى اللطف واحترام الآخرين وعدم اهتمام الخلق فيما لا يعنيهم.. أرى البلدية وقد وفرت الحدائق متنفسا للكبار وللصغار، المساحات الخضراء، الأبنية النظيفة المنظمة، الشوارع المخططة جيدا، المواصلات العامة الرخيصة والمتوفرة والراقية..

أخرج من المطار لا يوقفني أحد سوى موظف الجوازات الذي يتأكد من حصولي على الفيزا. أرى حقوق الإنسان وحتى الحيوان، والطب الجيد والتعليم عالي المستوى، والنقابات التي تحفظ حقوق العمال والموظفين في كل أطيافهم، أرى علم الدولة يرفرف في كل مكان، لا ينطق ويقول أنا مسيحي أو مسلم أو درزي أو علوي أو آشوري أو ملحد أو تركي أو كردي أو عربي أو أفريقي. أرى حكوماتهم تجتمع بانتظام في عمل دؤوب لتوفير كل متطلبات الشعب كي يبقى مرتاحا، أرى أصحاب المحلات والتجار لا يستغلون الناس أو يغشونهم، وأصحاب المهن الحرفية يقوم كل منهم بعمله بإخلاص وأخلاق دون تذمر وشكوى وعصبية..

يسألونك لماذا الثورة.. وكل مافي سوريا كان ينضح بالفساد والخراب..
يسألونك لماذا الثورة وكأن سوريا قبلها كانت سويسرة الشرق.. السرقة والرشى والاستغلال والكذب والنفاق والرياء والمجاملة وبيع الأخلاق والأجساد. الشوارع المليئة بالحفر وغير المخططة جيدا، الأبنية العشوائية ذات المظهر البشع والمرتمية في كل مكان بعد أن تمكن أصحابها من دفع مال الرشوة اللازم للبلدية والمحافظة، التعليم المتدني والنجاح بدفع المبالغ المطلوبة للأساتذة، استبعاد الأذكياء والجادين بل وقمعهم مقابل توفير مقاعد في تخصصات عالية للمنتسبين لبعض المنظمات المحسوبة على النظام، الأطباء الذين تحولوا إلى جزارين وقد أمنوا العقاب، إهمال الفقراء، التهام المساحات الخضراء ودفع أهالي الريف للبحث الدائم عن عيش معقول في المدن بسبب عدم توفير الخدمات الأساسية للحياة. تدخل الأمن في أدق تفاصيل الحياة، غياب القانون وفساده وعدم استقلاله حتى باتت الناس تأكل بعضها بعضا، انعدام حرية الفكر والتعبير وإعلام من لون واحد. إهمال المواقع السياحية واشتراط الشراكة مع من يريد فتح مشروع سياحي ناجح. أما المطار فالداخل إليه مفقود والخارج مولود.

يسألونك لماذا الثورة ولم يتمكن الشعب من اختيار حاكمه أو ممثليه في البرلمان أو المحافظة بحرية منذ أكثر من 50 عاما، ولم يستطع محاسبة أي منهم على تقصيره.
يسألونك وكأن الحياة طعام وشراب ولهو وجنس وهراء، فكيف تعيش الدواب إذن؟
يسألونك وكأنهم يعتبرون من يعيش في أوروبا وأمريكا واليابان وسنغافورة وهونغ كونغ وحتى ماليزيا من كواكب أخرى.
خمسون عاما عادت بلادنا فيها إلى القرون الوسطى بينما تمكنت دول مثل الإمارات العربية التي لم تكن شيئا من أن تصبح حلما للعمل والمعيشة، ويسألونك وهم أنفسهم حاولوا إما الهجرة أو الحصول على فرصة عمل أو تعليم أبنائهم أو التطبب في الخارج. وقد رأيت الآلاف يحاولون الهجرة إلى الدول الأجنبية ولم أسمع عن أجنبي حاول الهجرة إلى بلادنا.. يا للسخرية!..
وفي القرن الحادي والعشرين، قرن التطور التقني بامتياز والقفزات العلمية الهائلة، لا تزال سوريا تعاني من انقطاع الكهرباء والماء والاتصالات والانترنت وفقدان الأساسيات، وما زال أطفالها يسرحون في الشوارع لبيع المحارم واللبان، ويفرغون طاقات طفولتهم في  شريعة الغاب، ولا يزالون لا يحلمون بمستقبل، ولا يزال الشاب يتعلم ويبقى عاطلا عن العمل وغير قادر على توفير حياة لائقة أو على تأسيس عائلة.. يا لتعاستهم..
ولا يزالون يسألونك..



ميساء آقبيق