الملك الأشرف ومعركة عكا
في الحلقة الأولى جاء ذكر المنصور قلاوون حاكم مصر، وعدم ثقته بابنه خليل وعدم رضاه عن تصرفاته وسلوكه الشخصي واعتقاده بأنه غير كفء لتولي عرش السلطنة ما جعله يرفض توقيع تقليد بتوليته الحكم قبل وفاته..
غير أن هذا الأمر لم يمنع تسلم خليل للملك، إذ إن الحملة العسكرية التي أعدها قلاوون للثأر من الفرنجة في عكا كانت تتطلب قيام سلطان جديد على وجه السرعة..
فأدى الأمراء قسم الإيمان للسلطان الجديد الذي أطلق عليه لقب "الملك الأشرف".
ولم يخل الأمر من وجود شخصيات عارضوا وصول "الأشرف" للحكم.. ومما يحكى أنه عندما جلس على عرش السلطنة المملوكية في اكتوبر/تشرين الثاني 1290م 689هـ استدعى القاضي فتح الدين ابن عبد الظاهر صاحب ديوان الإنشاء إليه وسأله عن تقليده.. فأحضر القاضي التقليد وهو خال من توقيع قلاوون معتذرا بأن السلطان شغله أمر العدو عن التوقيع على التقليد. فقال السلطان: يافتح الدين، إن السلطان امتنع أن يعطيني فأعطاني الله، ورمى له التقليد.
اتصف الأشرف خليل بالكبرياء والقسوة، والافتقار إلى ظرف أبيه وحكمته.. لم يكن يهتم حتى لو قتل نفسا، جريا وراء وساوسه وأوهامه، فكان يأمر بالتضييق على أحد خصومه ثم لا يلبث أن يرضى عنه ويقربه، ثم يعيد الكرّة تارة أخرى ويقبض عليه ويعذبه، بل وربما تخلص منه.. غير أنه كان شجاعا مقداما، فلم يقتد بوالده إلا في أمر واحد، هو إصراره على الخروج لمقاتلة الفرنجة وإخراجهم من بلاد الشام..
أما أسوأ صفاته فكان قصر نظره السياسي.. إذ إنه لم يدرك شدة البأس وقوة الشكيمة التي كانت عند الأمراء، وقدرتهم على الدس لمن لا يردعهم ويوقرهم ويرعى حرمتهم من سلاطين مصر.. كما لم يتعظ بما حدث لأسلافه كالمظفر قطز وبركة خان.. فقام فور اعتلائه العرش بإبعاد الأمراء من أتباع أبيه عن مناصب الدولة، لينصب مكانهم شبانا قليلي الخبرة من أعوانه وسماره..
هذا الأمر جعل أوضاع السلطان الاشرف خليل دائما غير مستقرة، وعرضت حكمه باستمرار للمنافسة التقليدية التي جرت في عهود معظم سلاطين المماليك من جانب كبار الأمراء.. وهكذا بدأت دسائس من قام باستبعادهم ضد حكمه..
كان نائب السلطنة الأمير حسام الدين طرنطاي يكن عداوة وبغضاء لخليل منذ أن كان وليا للعهد.. عز على الأمير حسام الدين ألا يفوز هو بالعرش بعد وفاة قلاوون مما جعله المرشح الأنسب عند الأمراء المستبعدين للمشاركة في التآمر ضد حكم الأشرف.. غير أن هذا الأخير علم بالأمر وقبض على طرنطاي وقتله وصادر أمواله وممتلكاته ونقل
ماتحويه خزائنه إلى بيت المال..
وعلى رغم كل شيء، فإن أهم ما يميز فترة حكم الملك الأشرف كانت معركة عكا، التي تستحق وقفة وشرحا وافيا..
مدينة عكا كانت تمتاز بسمعتها الدفاعية المشرفة منذ حروب صلاح الدين، وقد اهتم الفرنجة منذ أيامهم الأولى بتحصين أسوارها حتى صار يضرب بها المثل في مناعة حصونها. كانت عكا منفذا أساسيا من المنافذ الساحلية لمملكة الفرنجة التي تحكم بيت المقدس.
ولما سقطت مدن الفرنجة في أيدي المسلمين أيام بيبرس وقلاوون صارت عكا ملجأ لجميع الأجانب الذين هاجروا إليها من تلك المدن، لكن هذه العناصر المهاجرة المختلفة عاشت كجاليات مستقلة بشؤونها ولها حكوماتها الخاصة بها، وعلى هذا صارت عكا في أواخر القرن الثالث عشر مجموعة من الدويلات الصغيرة متناقضة المصالح، بعضها يعمل باسم ملك فرنسا والبعض الآخر باسم ملك انجلترا وآخرون باسم ملك بيت المقدس المقيم في قبرص.. وعلى الرغم من هذا فقد راقبت حكومة عكا الاضطرابات الداخلية في القاهرة واستغلت عدم الاستقرار فأرسلت وفدا برئاسة أحد أعيان عكا وعضوية فارسين وكاتب لطلب العفو من السلطان وإقناعه بالتخلي عن مهاجمة مدينتهم.. لكن خليل رفض الاعتذار ورفض استقبال الوفد وزج بأعضائه في السجن فلم يعد هناك مفر من القتال.
ولم يشأ السلطان الخروج في حملته العسكرية من دون احتفالات، أقام فيها حفلة ذكر وزع فيها العطايا على القضاة والفقهاء ثم خرج من القاهرة في شباط/فبراير 1291م 690هـ في طريقه إلى دمشق حيث وضع عياله وحريمه ثم غادر إلى عكا..
في هذه الأثناء أرسل الأشرف إلى جميع ولاة الشام وأمر بإمداده بما لديهم من وسائل النقل لحمل الذخائر والجنود إليه، ومن ثم موافاته إلى أسوار عكا..
وكان ممن انضم الى الجيش قوات حماة التي بلغت أمتعتها من الثقل أن استغرقت رحلتها إلى عكا شهرا كاملا. وقدر عدد أفراد القوات الإسلامية التي اشتركت في الحصار ب60 ألف فارس و160 ألفا من المشاة إضافة إلى عدد ضخم من آلات الحصار والضرب منها 92 منجنيقا من بينها منجنيق ضخم يسير على مئة عجلة سمي "المنصوري".
استبد الرعب بسكان عكا أمام هذا الحشد الهائل واستغاثوا بأوروبا الغربية فلم يتلقوا إلا عددا من الفرسان الانجليز أرسلهم الملك ادوارد، وعددا من الجنود أرسلهم ملك قبرص هنري الثاني.. فلم تجد الطوائف المتنازعة بدا من الاتحاد للدفاع عن المدينة، فبلغت جموع الفرنجة بين ثلاثين وأربعين ألفا منهم 800 فارس و14 ألفا من المشاة والباقي من العوام.
وصل جيش المماليك في شهر ابريل/نيسان وحاصر المدينة، واتخذت قوات حماة مكانها عند البحر وانتشرت باقي الفرق حول المدينة، ونصب السلطان خيمته تجاه برج المندوب البابوي على مسافة قريبة من الشاطئ.
وفي الجانب الآخر من مدينة عكا تمركز عموري أخو ملك قبرص عند زاوية يقع فيها برجا الملكين هنري الثاني وهيو، واتخذ الفرسان الفرنسيون والانجليز مواقعهم عن يمينه ثم قوات البنادقة والبيازنة (سكان بيزا)..
بدأت المعركة بضرب قوات المماليك أسوار عكا بالمنجنيق لكن سيطرة سكان عكا بقيت على البحر فظلت المؤن ترد بانتظام من قبرص رغم الافتقار إلى الأسلحة.
حاولت قوات الفرنجة القيام بهجمات ليلية فشنوا هجوما مفاجئا على معسكر قوات حماة لكن الهجوم فشل، وأدت هذه المحاولة إلى أسر بعضهم وارتد البعض الآخر على أعقابهم إلى داخل المدينة.. بعد ذلك قاموا بشن هجوم آخر فشلوا فيه أيضا.. وكان لهذا الفشل بالغ الأثر في روحهم المعنوية بشكل بالغ، فتوقفوا عن شن الهجمات وتولد بينهم شعور باليأس وأخذوا يدركون أن ليس لديهم ما يكفي من العساكر للدفاع عن الأسوار تجاه الأعداد الضخمة التي حشدها المماليك وصار الوقت في صالح المماليك.
غير أن المدد وصل في شهر مايو/أيار عندما وصل الملك هنري الثاني من قبرص برفقة مئة فارس وألفين من المشاة إضافة إلى قدر كبير من المؤن والإمدادات حملتهم أربعون سفينة، فجرى استقباله بكل مظاهر البهجة والسرور وأشعل السكان نيرانا لم يُر مثلها فرحا به وتشجعوا على الثبات والمقاومة، ولم يكد هنري يهبط على الأرض حتى تولى القيادة فاثار ذلك حماسة في المدافعين.
أجرى هنري محاولة في البداية للتفاهم مع السلطان سعيا منه لإعادة السلام فأرسل رسولين طلبا عقد هدنة ووعداه بإنصاف كل شكوى. استقبلهما السلطان خارج خيمته واستلم منهما الرسالة وسألهما: ألم تحضرا معكما مفاتيح المدينة؟ فلما أنكرا قال: ذلك هو مطلبي.. فما كان منه في المقابل إلا أن وعدهما بتأمين خروج جميع الأجانب من عكا ومعهم أموالهم اذا استسلموا ولم تؤخذ المدينة عنوة.
عندما فشلت المفاوضات قرر الملك هنري الثاني الدفاع عن عكا حتى النهاية رغم الصعوبات التي تمثلت في قلة المدافعين وتجدد النزاعات الداخلية بين بعض الفصائل وقلة التجهيزات.
نجح رجال السلطان في إحداث ثقوب في الأبراج أشعلوا فيها النيران حتى أخذت بالتداعي، ثم شق المماليك طريقهم إلى داخل الخرائب التي أحدثها الضرب المتواصل وأجبروا المدافعين على التقهقر إلى الخط الداخلي من الأسوار.
بعد ذلك أصدر السلطان أمرا بشن هجوم عام على امتداد الأسوار غير أن التركيز كان على القلعة التي دافع عنها الملك هنري الثاني وقواته، واندفعت الفرق العسكرية المملوكية الواحدة تلو الاخرى وهم يهتفون بصيحات الحرب المرعبة، ترافق ذلك مع إحداث الضجيج المنبعث من الطبول، فأثار ذلك الرعب والخوف في نفوس المقاتلين الفرنجة.. ولم يمض وقت طويل حتى شق المماليك طريقهم إلى القلعة وأجبروا حاميتها على التراجع والخروج ثم دخلوها واستقروا داخل المدينة.
ودار قتال عنيف في الشوارع والأزقة فغادر الملك هنري عكا هاربا مع قواته وفرسانه وشاعت الفوضى في المدينة واندفع العساكر والسكان إلى الميناء وتزاحموا على القوارب يلتمسون الوصول إلى السفن الراسية قبالة الشاطئ، لكنها لم تكن كافية مما أعجزها عن إنقاذ جميع اللاجئين، كما غرق بعضها بسبب ثقل الحمولة. وقتل وأسر عدد ضخم من سكان عكا، وكان آخر موقع استسلم هو دار الداوية (فرسان المعبد) الضخم البارز في داخل البحر في الجهة الشمالية الغربية من المدينة وكان قد لجأ إليه من بقي على قيد الحياة، وظل المدافعون يقاومون حتى تداعت أساسات البناء وانهار.
أما من لزموا بيوتهم فقد بيعوا كرقيق فوصل ثمن الفتاة في سوق الرقيق في دمشق إلى درهم لوفرة أعدادهم.
وبمجرد أن سيطر المماليك على عكا في شهر مايو/أيار 1291م امر السلطان بتدميرها كي لاتبقى رأس حربة لما قد يقوم به الأعداء من هجمات على بلاد الشام.
وخيم السكون على امتداد الساحل الذي ظل زمنا طويلا ميدانا يُسمع فيه صليل سيوف القتال.
بهذا الحماس الدافق حاول السلطان خليل أن يستغل الظرف وينتقل إلى محاربة المغول فطلب من الخليفة الحاكم بأمر الله إعلان الجهاد العام على المنابر، ثم خرج بجيوشه نحو الحدود الفراتي واستولى على قلعة الروم من أيدي التتار وغير اسمها إلى قلعة المسلمين ثم أعلن على الملأ نيته طرد المغول من العراق وإرجاعهم إلى مواطنهم.
وعندما أراد "أرغون خان" وهو أيلخان مغول فارس السخرية من دعايات الأشرف خليل أرسل إليه خطابا يطلب منه تسليم مدينة حلب للإقامة فيها كما كان يفعل ايلخانات فارس من قبل. فرد عليه السلطان خليل بخطاب مثله مطالبا هو الآخر بتسليم بغداد للإقامة فيها أيضا وإعادة الخلافة العباسية إليها.
لكن القدر كان يرسم خطا آخر.
في الحلقة المقبلة: الاضطرابات والدسائس والانقلابات بين أمراء المماليك في مصر
هذه السلسلة بدأت أواخر عام 2010 كفكرة لمسلسل درامي تاريخي.. وقد تحدثت بشأنها مع بعض صناع الدراما، كما تحدثت مع الشيخ وليد الابراهيم مالك مجموعة إم بي سي الذي أعجب بها وحولني إلى مدير الإنتاج الدرامي في المجموعة للتنسيق معه، وقمت بتسجيلها قانونيا باسمي.. إلا أن اندلاع الثورات العربية وتلاحق الأحداث وعملي في أخبار العربية حينها شغلني عن المتابعة، إضافة إلى أن الإسقاط التاريخي الواضح في أحداثها على منطقتنا دفعني للانتظار كي أرى نتيجة الثورات.. وبعد أن طال الزمن وخرج مسار الأحداث عن المنطق والخيال ولم يعد ممكنا التنبؤ بالنهاية، قررت نشر السلسلة على مدونتي، لكنها لا تزال تصلح قصة لمسلسل تاريخي ضخم الإنتاج فيما بعد.. يذكر أن هذه الأحداث موثقة تاريخيا وفق عدة مراجع وكتب علمية، ولا يدخل الخيال في تفاصيلها..
حقوق المادة المكتوبة محفوظة
هذه السلسلة بدأت أواخر عام 2010 كفكرة لمسلسل درامي تاريخي.. وقد تحدثت بشأنها مع بعض صناع الدراما، كما تحدثت مع الشيخ وليد الابراهيم مالك مجموعة إم بي سي الذي أعجب بها وحولني إلى مدير الإنتاج الدرامي في المجموعة للتنسيق معه، وقمت بتسجيلها قانونيا باسمي.. إلا أن اندلاع الثورات العربية وتلاحق الأحداث وعملي في أخبار العربية حينها شغلني عن المتابعة، إضافة إلى أن الإسقاط التاريخي الواضح في أحداثها على منطقتنا دفعني للانتظار كي أرى نتيجة الثورات.. وبعد أن طال الزمن وخرج مسار الأحداث عن المنطق والخيال ولم يعد ممكنا التنبؤ بالنهاية، قررت نشر السلسلة على مدونتي، لكنها لا تزال تصلح قصة لمسلسل تاريخي ضخم الإنتاج فيما بعد.. يذكر أن هذه الأحداث موثقة تاريخيا وفق عدة مراجع وكتب علمية، ولا يدخل الخيال في تفاصيلها..
حقوق المادة المكتوبة محفوظة