"كورونا"، التباعد الاجتماعي
لا تزورني ولا أزورك، لا تلمسني، لا تصافحني، بالتأكيد لا تعانقني أو تقبلني، حافظ على مسافة التباعد متر ونصف المتر، إياك أن تنزع القناع عن وجهك، عقم يديك، تجنب الاختلاط مع الآخرين ما أمكن. باختصار دعنا نتحدث عبر الهاتف أو الشاشة الجامدة. قد أستفيد من هذا الوضع من ناحية ثانية بأني سأوفر المال والجهد لتحضير الضيافة المعتادة من شاي وقهوة وعصائر وطعام وحلويات وغير ذلك.
انتبه إلى أبنائك، ولا تنس أن تحذرهم من خطورة الاقتراب من أقرانهم، أو اللعب معهم والجلوس قريبا منهم وبالتالي ممنوع الهمس في الأذن أو العمل المشترك في تحضير الواجبات الدراسية أو البحوث والمشاريع المطلوبة في المدارس، والأفضل أن لا ترسلهم للتعلم أو لأي مكان مزدحم، دعهم يحاولون التعلم عن بعد. قد أستفيد أيضا من هذا الوضع وأوفر المال والوقت الذي يتطلبه تسجيل الأبناء في نوادي رياضية أو اجتماعية أو معرفية وأتحلل من مسؤولية توصيلهم إلى هذه النوادي وإعادتهم إلى المنزل.
الخيارات الوحيدة المتاحة أمامك كي لا تشعر أنك وحيد في جزيرة منعزلة وتجد نفسك تتحدث إلى كرة مثلما فعل توم هانكس في فيلم "كاست أواي" هي الانترنت ثم الانترنت ثم الانترنت، ستتحول علاقاتك الاجتماعية والعائلية والعملية إلى علاقة عبر الأسلاك. إذا حدث أي طارئ لهذه الأسلاك تحت البحر كما حصل منذ نحو عشرة أعوام وتوقف الانترنت مدة طويلة سيبدأ المرء في التحدث مع نفسه وهناك احتمال أن يصاب البعض بالهستيريا أو الأمراض النفسية.
لا أحاول هنا الاقتراب من التفاصيل الطبية لمرض كورونا، ولا يهمني أن أعرف إذا كان حدث هذا "الفيروس" بالصدفة أو أن أياد خفية زرعته في مكان ما فانتشر كالسرطان. ما يهمني هو ما بات الناس يعيشونه تبعاً لظهور هذا البلاء، خصوصا في الدول التي تتخذ احتياطات عالية المستوى كألمانيا مثلا أو دول أوروبية أخرى، وبالتالي أحاول رسم صورة متخيلة للوضع الاجتماعي في حال استمر الخوف من انتشار الوباء بهذا الشكل سنوات تالية.
الصورة عن موقع "الشرق الأوسط"ما قبل كورونا ليس كما بعد كورونا، اليوم اكتشفت شركات كثيرة وكبيرة أن بإمكانها الاستغناء عن نصف موظفيها وعامليها على الأقل من دون أن يتأثر العمل. يستطيع أصحاب رأس المال الآن تخفيض رواتب العاملين لديهم إلى النصف. سيوفرون بدلات المواصلات والسفر وتأمين حوادث العمل وستخفف العاملات أو الموظفات من المصروف العالي الذي كن يستهلكنه في شراء ملابس وأحذية ومعاطف كمتطلبات للخروج من المنزل كل يوم، وسينتقل جزء من هذه التكاليف إلى رسوم يتم ضخها في شركات وبرمجيات الانترنت أخذت شكل منصات تواصل واجتماعات وتنفيذ أعمال. أما من فقد عمله فستتضاعف لديه صعوبة العثور على بديل في ظل إعلان كثير من الشركات والمحلات الكبرى إفلاسها، خصوصا بعد أن بات الاعتماد على نصف العدد المطلوب من الموظفين والعاملين كافياً. سيتراجع مستوى المعيشة وسيخف الاستهلاك وسيتم الاستغناء عن خادمات ومربيات كن يأخذن وظيفة الأم، وربما يحاول بعض الرجال أن يتعلموا تصليح الأعطال المنزلية بأنفسهم لتوفير أجرة المتخصصين. وعندما تكمل الدورة الاقتصادية دورتها يكون المجتمع والدولة برمّتهم قد أصبحوا تحت أزمة اقتصادية صعبة لم تتضح صورتها بعد.
الصورة عن موقع "ساينتيفيك أميركان"
حماية الخصوصية صارت من الماضي. أصبحنا في كل مرة نجلس في أي مكان عام أو ننتقل في وسيلة مواصلات مجبرين على تعبئة فورم فيه جميع بياناتنا الخاصة من اسم وعنوان ورقم هاتف وإيميل، لم يعد الأمر اختياريا كما كنا نفعل عند تحميل أحد التطبيقات ونرفض ولوج التطبيق إلى بياناتنا الشخصية، صار الموضوع إجبارياً وأحياناً تحت طائلة العقوبة، وكل ذلك تحت شعار "كورونا".
اجتماعيا، سيبدأ الأشخاص بالتعود على الانعزال وستتراجع فرص الاجتماعات العائلية أو بين الأصدقاء وستتقلص مساحات الضحك والفرح. سيشعر كل إنسان بالخوف من الآخر وسينشأ الأطفال على هذه الثقافة، ويكبرون وهم أقل عطفاً وأقل قدرة على التعبير عن الحب والمحبة، فالملامسة الجسدية حتى لو بتربيت على الكتف أمر في غاية المهمة من الناحية النفسية لتحريك العواطف والمشاعر الحميمة. سيفقد الحب كما نعرفه معناه، وسيتعامل الناس كالآلات مع بعضهم البعض، لكن قبل أن يستقر الوضع على هذا الأمر سيواجه من يعيشون تغييرات وقيود الفترة الحالية بتقلبات في المزاج وربما عدائية في التعامل مع الآخرين.
فنياً، تراجع الإنتاج السينمائي والدرامي والمسرحي واختفت العروض الموسيقية والغنائية والراقصة ولم يعد هناك وجود لمعارض الرسم والتصوير إلا نادراً وعلى نطاق محدود.
حصار، سجن كبير، اكتئاب، فراغ، ضائقة مالية، خوف من الإصابة بالعدوى، ورعب. الرعب الذي نشره هذا الوباء في أنحاء العالم يتجه إلى الخروج عن السيطرة، كلمة "كورونا" أو "كوفيد 19" اليوم هي أكثر الكلمات تداولا في الأحاديث العامة.
لن يستطيع المعارضون لأي أمر بعد اليوم تحقيق تجمعات كبيرة لإطلاق مظاهرات تؤثر على الرأي العام أو الإعلام في قضية سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية. بات الأمر ممنوعاً. تمت السيطرة على الجموع، أحكم أصحاب العروش ورأس المال ورجال الأمن القبضة على تجمعات الشعوب.
الصورة عن موقع "رصيف 22"قد تبدو هذه الصورة قاتمة جدا، لكن ما يحدث بالفعل ليس مشرقاً إطلاقاً، ومن يجلس على كرسي في حديقة عامة أو مركز المدينة أو محطة قطار أو مطار ويراقب لغة الجسد بين المارة والموجودين، وينظر في وجوههم أو عيونهم خصوصا بعد أن غطى القناع الطبي نصف الوجه وسمح فقط للعينين أن تظهرا، لن يجد ذلك البريق الذي كان يضيء وجوه كثيرين، بل سيجد نظرات التوجس والحذر والترقب والمراقبة للمحيط خشية اختلاط زائد أو احتكاك محتمل، هكذا يصبح الإنسان أقرب إلى آلة.
زمن "كورونا" إلى مزيد من الفردية، وداعاً للشعور الجماعي.
ميساء آق بيق
17/9/2020
No comments:
Post a Comment