كيف يتحول متابع الانترنت إلى سلاح جريمة!
في عام 2008 أنتجت هوليود فيلما بعنوان "Untraceable"/"لا يمكن تعقبه" وهو فيلم تدور قصته حول محققة في إف بي آي (وكالة التحقيق الفيدرالية) تحاول فك لغز جرائم متسلسلة لقاتل ذكي جدا أنشأ موقعا على الانترنت غير قابل للتتبع ليعرض جرائمه عليه.
(دعاية الفيلم في الرابط التالي)
https://www.youtube.com/watch?v=fOagvF01Qho
كيف كان يقتل هذا الشخص ضحاياه، كان يختطف الضحية ويبتكر لها في كل مرة طريقة تعذيب مختلفة تقتلها ببطء أو بسرعة بحسب عدد المشاهدين. وتتعلق آلية التعذيب بعدد مشاهدات الفيلم على الانترنت، فقد ربط هذا القاتل وسيلة التعذيب بعدد المتابعين للجريمة، وكلما ازداد عدد المشاهدين كلما ارتفعت حدة التعذيب وسرعته وأدت إلى مقتل الضحية.
وعلى الرغم من أن هذا الشخص أعلن صراحة بأن مقتل كل شخص مرتبط برغبة المتابعين في المشاهدة، وعلى رغم تحذير الشرطة والوكالة للناس بأن لا يضغطوا زر المشاهدة على هذه الأفلام كي لا يتحولوا إلى سلاح للجريمة لكن في كل فيديو كان عدد المشاهدين يرتفع أكثر حتى وصل إلى ملايين تسببت متابعتهم في جعل التعذيب أكثر قسوة وأكثر سرعة في القتل.
يظهر القاتل على الهواء في نهاية الفيلم ليقول إنه لم يقتل أحدا، بل إن الناس تهوى التعذيب والمزاج الجمعي يهوى مشاهدة الموت والإثارة في أساليب القتل.
(المعلومات الكاملة عن الفيلم في الرابط التالي)
https://en.wikipedia.org/wiki/Untraceable
تذكرت هذا الفيلم وأنا أتابع ما يحدث على فيسبوك بين السوريين هذه الأيام حول قصة أنس مروة وزوجته الحامل أصالة وحفلة تحديد جنس الجنين التي ختمها برج خليفة في دبي بإضاءة جنس المولود أمام جميع الموجودين ونقلته منشورات الناشطين.
هذا الموضوع لاقى اهتماما ورواجا واسعا بين المتابعين وتنوعت التعليقات بين من رأى في الحدث ابتذالا ومن اعتبر أن أنس حر في ما يفعله ومن حمله مسؤولية إضافية كونه ابن شخص معروف في المعارضة السورية وبين من رأى أن فيديوهات أنس التي وصلت أعداد متابعيها إلى ملايين هي فيديوهات فارغة وتافهة في حين قال البعض إن أنس يمتهن بث الفيديوهات والحفلة هي عبارة عن بزنس يدر عليه أموالا إضافية، وهناك من قال إن المبلغ الذي تم دفعه إلى شركة إعمار المسؤولة عن إدارة برج خليفة هو 95 ألف دولار وهناك من قال إن المبلغ 350 ألف دولار، هكذا من دون الحصول على أي تصريح من مسؤولي إعمار أو من دون إبراز أي وثيقة تثبت هذا المبلغ، وبدأ الناس بتداول هذه المعلومات بناء على ثقة عمياء لا جدال فيها بمن نشر هذه الأرقام، ثم جاء خبر على موقع مسبار يقول إن الشركة قدمت العرض من دون مقابل مالي كدعاية.
(خبر مسبار في الرابط التالي)
الانترنت اليوم بات في متناول الجميع، وصار بمقدور أي شخص أن يفتح حسابا خاصا على إحدى منصات التواصل الاجتماعي ويخرج في بث حي ومباشر يتحدث فيه ويقول ما يحلو له ويفعل ما بدا له، فقد انتشرت فيديوهات بلغات كثيرة تنوعت بين تعليم لغات وطبخ وخياطة وماكياج وتصفيف شعر وأمور علمية وكيفية صناعة مواد معينة في المنزل وصولا إلى فيديوهات أبطالها أشخاص يتحدثون في شؤون مختلفة ويقولون آراءهم ويعلقون على قضايا هنا وهناك.
السوريون أتقنوا لعبة الانترنت منذ أن بدأ الحراك الشعبي داخل سوريا عام 2011 حيث أنهم في تلك الفترة كانوا مصدرا وحيدا للأخبار الآتية من داخل البلاد في ظل تعتيم إعلامي كامل من نظام الحكم ومنع صارم لإعلاميين مستقلين من متابعة ما يحدث عن كثب ومن نقل الحقيقة.
وعندما تشتتوا في أرض الله الواسعة وجد كثير منهم في وسائل التواصل الاجتماعي الحبل الذي يربطهم بأصدقائهم ومعارفهم وأهاليهم. بعضهم عمل بسرعة على الاندماج في البلد التي استقر فيها وتعلم لغتها وأكمل دراسته أو وجد عملا يكسب منه رزقه بمن فيهم أشخاص لهم حسابات على يوتيوب يقدمون فيها مثلا طرق طبخ أكلات سورية شهيرة، وهؤلاء انشغلوا فعلا بحياتهم الجديدة. والبعض الآخر ربما لم يتمكن من فهم البيئة المحيطة الغريبة عنه ولم يستطع أن يحقق وجودا ماديا فأخذ يبحث عن فرصة لإثبات الوجود بمختلف الوسائل ولم يجد سوى فيسبوك ويوتيوب كي يحاول تحقيق شهرة ولو كانت تستند إلى كلام فارغ أو تافه أو معيب بالمعايير الاجتماعية المتعارف عليها، وإن كانت تتخذ شكل صحافة صفراء تعتمد على فضح الآخرين والخوض في سمعتهم وخصوصياتهم.
هناك من اعتمد على طرق شعبوية تخاطب نوعيات من الناس لا معرفة لديها ولا اطلاع ولم تقرأ في حياتها كتابا كي يتلاعب بمشاعرها ويؤجج في نفوسهم غضبا أساسه غير مفهوم ويحشو رؤوسهم بمعلومات لا تستند إلى أدلة، وهناك من اعتمد على تحريك الغرائز الدنيا لدى أناس يعيشون الكبت الجنسي في أسوأ أشكاله، وهناك من صار يعتمد على كوميديا مضحكة أحيانا تكون لطيفة وممتعة وأحيانا كثيرة تكون تهريجا مبتذلا، وهناك أشكال أخرى كثيرة.
جميع هذه النوعيات وما يشبهها منها ما لم يسمع بصاحبها أحد ومنها ما حقق شهرة نسبية ومنها ما حقق شهرة كبيرة وهم قلة. وهؤلاء الذين حققوا شهرة جاءت شهرتهم من ارتفاع أعداد متابعيهم وبالتالي ارتفعت عائداتهم المالية تبعا لتلك الأعداد. وعندما يكون صاحب البث تافها مثلا وعدد متابعيه كبير فربما من الخطأ توجيه اللوم إليه بقدر ما يلام من يتابعه. في كل مرة يضغط أحدنا زر المشاهدة لأحد الفيديوهات يكون ممولا ماليا لصاحب الفيديو. تماما مثل أولئك الذين شكلوا سلاح الجريمة للقاتل في الفيلم المذكور أعلاه.
المستوى المعرفي السطحي المنتشر لدى شرائح كبيرة في مجتمعات الشرق الأوسط لم يبدأ الآن فهو نتيجة عملية تجهيل مستمرة ساهمت فيها حكومات ووزارات تربية وتعليم عالي ووزارات إعلام، وشركات إنتاج أفلام ومسلسلات، وتلفزيونات وإذاعات وشركات إنتاج أغاني مصورة، ساعدهم فيها جمود أساليب تقديم المعرفة المفيدة وعدم جاذبيتها وكذلك لا مبالاة شديدة من الأهل والمربين. وهناك برامج كثيرة تذاع في الإذاعة أو تعرض على شاشات التلفزة مليئة بالتفاهة واللاجدوى تجد اهتماما من عدد كبير من الجمهور يلهث أصحاب الإعلانات لإغرائهم بشراء ممنتجاتهم من خلال إعلاناتهم التجارية ضمن هذه البرامج وهكذا تحقق هذه البرامج المال، شريان الحياة في العصر الحالي، وما يهتم به الجميع.
والغريب أنه على رغم الانتشار الواسع للانترنت في أيدي الصغار والكبار إلا أن هذا لم يشكل حافزا لحامل الموبايل او الآيباد كي يبحث عن أصل أو معنى أي معلومة يصادفها على وسائل التواصل الاجتماعي، وهكذا صار أي شخص يستسهل نشر أخبار كاذبة أو مفبركة، وأي صاحب حساب حتى لو وهمي لا يتورع عن اتهام أحدهم بالفساد أو بالخيانة وهو في هذا الإطار يمكن أن يضع أرقاما وقصصا خيالية كما يحلو له ويجد من يصدقه ويشارك أخباره ثم ينقلها إلى من يقوم بدوره بنقلها ونشرها على نطاق أوسع وهكذا تصبح القصة معتمدة من دون تحقق ويصبح من يحاول تصحيحها شخصا موتورا ويحكم الناس على الشخص المستهدف بالإعدام المعنوي التام.
من المسؤول عن الفوضى التي تنتشر بين أوساط بعض السوريين على وسائل التواصل الاجتماعي؟ بطل الفيلم، أم مروج الفيلم وموزعه، أم الجمهور الذي يتسابق لمتابعة هذا الفيلم؟
هل هناك طريقة فعلية لإعادة الأمور إلى نصابها الحقيقي أم أن الأمور خرجت عن السيطرة؟
ميساء آق بيق
11 أيلول 2020
مقال يستحق التمعن بالحقائق التي عرضها والتفكر فيها.
ReplyDeleteالجواب عن السؤال الوارد في الختام هو: لا شك أن هناك علاقة تفاغلية بين العناصر الثلاثة مما يعني أنهم مسؤولون جميعا بنسب متفاوتة قد تعود أعلاها للجمهور. أما عودة الأمور إلى نصابها فلن تتم إلا بانتشال الشعوب من مستنقع الخرافات السائدة، وذلك من حلال العلم والمعرفة
شكرا للكاتبة مع الإشادة بأسلوبها السلس الذي يجعل متاباتهل تصل إلى عقل القارئ ووجدانه بيسر وسهولة
مقال مفيد.. ويبقى المسؤول الاول عن الرداءة هو الشخص نفسه بالمعنى الأخلاقي ووسائل التواصل بالمعنى القانوني.. إنه عصر التفاهة، حين يناقش البيطري في علوم التربية، ويحاضر الطنبرجي في أصول العمل الإعلامي.. سينتهي كل هذا إلى مأساة جديدة خلال بضع سنوات، وسيدفع الجمهور ثمن ضغطة الزرّ.
ReplyDelete