Thursday, September 17, 2020

"كورونا"، التباعد الاجتماعي


لا تزورني ولا أزورك، لا تلمسني، لا تصافحني، بالتأكيد لا تعانقني أو تقبلني، حافظ على مسافة التباعد متر ونصف المتر، إياك أن تنزع القناع عن وجهك، عقم يديك، تجنب الاختلاط مع الآخرين ما أمكن. باختصار دعنا نتحدث عبر الهاتف أو الشاشة الجامدة. قد أستفيد من هذا الوضع من ناحية ثانية بأني سأوفر المال والجهد لتحضير الضيافة المعتادة من شاي وقهوة وعصائر وطعام وحلويات وغير ذلك.

انتبه إلى أبنائك، ولا تنس أن تحذرهم من خطورة الاقتراب من أقرانهم، أو اللعب معهم والجلوس قريبا منهم وبالتالي ممنوع الهمس في الأذن أو العمل المشترك في تحضير الواجبات الدراسية أو البحوث والمشاريع المطلوبة في المدارس، والأفضل أن لا ترسلهم للتعلم أو لأي مكان مزدحم، دعهم يحاولون التعلم عن بعد. قد أستفيد أيضا من هذا الوضع وأوفر المال والوقت الذي يتطلبه تسجيل الأبناء في نوادي رياضية أو اجتماعية أو معرفية وأتحلل من مسؤولية توصيلهم إلى هذه النوادي وإعادتهم إلى المنزل.



الخيارات الوحيدة المتاحة أمامك كي لا تشعر أنك وحيد في جزيرة منعزلة وتجد نفسك تتحدث إلى كرة مثلما فعل توم هانكس في فيلم "كاست أواي" هي الانترنت ثم الانترنت ثم الانترنت، ستتحول علاقاتك الاجتماعية والعائلية والعملية إلى علاقة عبر الأسلاك. إذا حدث أي طارئ لهذه الأسلاك تحت البحر كما حصل منذ نحو عشرة أعوام وتوقف الانترنت مدة طويلة سيبدأ المرء في التحدث مع نفسه وهناك احتمال أن يصاب البعض بالهستيريا أو الأمراض النفسية.

لا أحاول هنا الاقتراب من التفاصيل الطبية لمرض كورونا، ولا يهمني أن أعرف إذا كان حدث هذا "الفيروس" بالصدفة أو أن أياد خفية زرعته في مكان ما فانتشر كالسرطان. ما يهمني هو ما بات الناس يعيشونه تبعاً لظهور هذا البلاء، خصوصا في الدول التي تتخذ احتياطات عالية المستوى كألمانيا مثلا أو دول أوروبية أخرى، وبالتالي أحاول رسم صورة متخيلة للوضع الاجتماعي في حال استمر الخوف من انتشار الوباء بهذا الشكل سنوات تالية.

                                        الصورة عن موقع "الشرق الأوسط"

ما قبل كورونا ليس كما بعد كورونا، اليوم اكتشفت شركات كثيرة وكبيرة أن بإمكانها الاستغناء عن نصف موظفيها وعامليها على الأقل من دون أن يتأثر العمل. يستطيع أصحاب رأس المال الآن تخفيض رواتب العاملين لديهم إلى النصف. سيوفرون بدلات المواصلات والسفر وتأمين حوادث العمل وستخفف العاملات أو الموظفات من المصروف العالي الذي كن يستهلكنه في شراء ملابس وأحذية ومعاطف كمتطلبات للخروج من المنزل كل يوم، وسينتقل جزء من هذه التكاليف إلى رسوم يتم ضخها في شركات وبرمجيات الانترنت أخذت شكل منصات تواصل واجتماعات وتنفيذ أعمال. أما من فقد عمله فستتضاعف لديه صعوبة العثور على بديل في ظل إعلان كثير من الشركات والمحلات الكبرى إفلاسها، خصوصا بعد أن بات الاعتماد على نصف العدد المطلوب من الموظفين والعاملين كافياً. سيتراجع مستوى المعيشة وسيخف الاستهلاك وسيتم الاستغناء عن خادمات ومربيات كن يأخذن وظيفة الأم، وربما يحاول بعض الرجال أن يتعلموا تصليح الأعطال المنزلية بأنفسهم لتوفير أجرة المتخصصين. وعندما تكمل الدورة الاقتصادية دورتها يكون المجتمع والدولة برمّتهم قد أصبحوا تحت أزمة اقتصادية صعبة لم تتضح صورتها بعد.

                           

                                            الصورة عن موقع "ساينتيفيك أميركان"


حماية الخصوصية صارت من الماضي. أصبحنا في كل مرة نجلس في أي مكان عام أو ننتقل في وسيلة مواصلات مجبرين على تعبئة فورم فيه جميع بياناتنا الخاصة من اسم وعنوان ورقم هاتف وإيميل، لم يعد الأمر اختياريا كما كنا نفعل عند تحميل أحد التطبيقات ونرفض ولوج التطبيق إلى بياناتنا الشخصية، صار الموضوع إجبارياً وأحياناً تحت طائلة العقوبة، وكل ذلك تحت شعار "كورونا".

اجتماعيا، سيبدأ الأشخاص بالتعود على الانعزال وستتراجع فرص الاجتماعات العائلية أو بين الأصدقاء وستتقلص مساحات الضحك والفرح. سيشعر كل إنسان بالخوف من الآخر وسينشأ الأطفال على هذه الثقافة، ويكبرون وهم أقل عطفاً وأقل قدرة على التعبير عن الحب والمحبة، فالملامسة الجسدية حتى لو بتربيت على الكتف أمر في غاية المهمة من الناحية النفسية لتحريك العواطف والمشاعر الحميمة. سيفقد الحب كما نعرفه معناه، وسيتعامل الناس كالآلات مع بعضهم البعض، لكن قبل أن يستقر الوضع على هذا الأمر سيواجه من يعيشون تغييرات وقيود الفترة الحالية بتقلبات في المزاج وربما عدائية في التعامل مع الآخرين.

فنياً، تراجع الإنتاج السينمائي والدرامي والمسرحي واختفت العروض الموسيقية والغنائية والراقصة ولم يعد هناك وجود لمعارض الرسم والتصوير إلا نادراً وعلى نطاق محدود.

حصار، سجن كبير، اكتئاب، فراغ، ضائقة مالية، خوف من الإصابة بالعدوى، ورعب. الرعب الذي نشره هذا الوباء في أنحاء العالم يتجه إلى الخروج عن السيطرة، كلمة "كورونا" أو "كوفيد 19" اليوم هي أكثر الكلمات تداولا في الأحاديث العامة.                                     

لن يستطيع المعارضون لأي أمر بعد اليوم تحقيق تجمعات كبيرة لإطلاق مظاهرات تؤثر على الرأي العام أو الإعلام في قضية سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية. بات الأمر ممنوعاً. تمت السيطرة على الجموع، أحكم أصحاب العروش ورأس المال ورجال الأمن القبضة على تجمعات الشعوب.

                                                الصورة عن موقع "رصيف 22"
                                

قد تبدو هذه الصورة قاتمة جدا، لكن ما يحدث بالفعل ليس مشرقاً إطلاقاً، ومن يجلس على كرسي في حديقة عامة أو مركز المدينة أو محطة قطار أو مطار ويراقب لغة الجسد بين المارة والموجودين، وينظر في وجوههم أو عيونهم خصوصا بعد أن غطى القناع الطبي نصف الوجه وسمح فقط للعينين أن تظهرا، لن يجد ذلك البريق الذي كان يضيء وجوه كثيرين، بل سيجد نظرات التوجس والحذر والترقب والمراقبة للمحيط خشية اختلاط زائد أو احتكاك محتمل، هكذا يصبح الإنسان أقرب إلى آلة.

زمن "كورونا" إلى مزيد من الفردية، وداعاً للشعور الجماعي.


ميساء آق بيق

17/9/2020

Thursday, September 10, 2020

 

كيف يتحول متابع الانترنت إلى سلاح جريمة!

في عام 2008 أنتجت هوليود فيلما بعنوان "Untraceable"/"لا يمكن تعقبه" وهو فيلم تدور قصته حول محققة في إف بي آي (وكالة التحقيق الفيدرالية) تحاول فك لغز جرائم متسلسلة لقاتل ذكي جدا أنشأ موقعا على الانترنت غير قابل للتتبع ليعرض جرائمه عليه.

(دعاية الفيلم في الرابط التالي)

https://www.youtube.com/watch?v=fOagvF01Qho


كيف كان يقتل هذا الشخص ضحاياه، كان يختطف الضحية ويبتكر لها في كل مرة طريقة تعذيب مختلفة تقتلها ببطء أو بسرعة بحسب عدد المشاهدين. وتتعلق آلية التعذيب بعدد مشاهدات الفيلم على الانترنت، فقد ربط هذا القاتل وسيلة التعذيب بعدد المتابعين للجريمة، وكلما ازداد عدد المشاهدين  كلما ارتفعت حدة التعذيب وسرعته وأدت إلى مقتل الضحية.

وعلى الرغم من أن هذا الشخص أعلن صراحة بأن مقتل كل شخص مرتبط برغبة المتابعين في المشاهدة، وعلى رغم تحذير الشرطة والوكالة للناس بأن لا يضغطوا زر المشاهدة على هذه الأفلام كي لا يتحولوا إلى سلاح للجريمة لكن في كل فيديو كان عدد المشاهدين يرتفع أكثر حتى وصل إلى ملايين تسببت متابعتهم في جعل التعذيب أكثر قسوة وأكثر سرعة في القتل.

يظهر القاتل على الهواء في نهاية الفيلم ليقول إنه لم يقتل أحدا، بل إن الناس تهوى التعذيب والمزاج الجمعي يهوى مشاهدة الموت والإثارة في أساليب القتل.

(المعلومات الكاملة عن الفيلم في الرابط التالي)

https://en.wikipedia.org/wiki/Untraceable


تذكرت هذا الفيلم وأنا أتابع ما يحدث على فيسبوك بين السوريين هذه الأيام حول قصة أنس مروة وزوجته الحامل أصالة وحفلة تحديد جنس الجنين التي ختمها برج خليفة في دبي بإضاءة جنس المولود أمام جميع الموجودين ونقلته منشورات الناشطين.

هذا الموضوع لاقى اهتماما ورواجا واسعا بين المتابعين وتنوعت التعليقات بين من رأى في الحدث ابتذالا ومن اعتبر أن أنس حر في ما يفعله ومن حمله مسؤولية إضافية كونه ابن شخص معروف في المعارضة السورية وبين من رأى أن فيديوهات أنس التي وصلت أعداد متابعيها إلى ملايين هي فيديوهات فارغة وتافهة في حين قال البعض إن أنس يمتهن بث الفيديوهات والحفلة هي عبارة عن بزنس يدر عليه أموالا إضافية، وهناك من قال إن المبلغ الذي تم دفعه إلى شركة إعمار المسؤولة عن إدارة برج خليفة هو 95 ألف دولار وهناك من قال إن المبلغ 350 ألف دولار، هكذا من دون الحصول على أي تصريح من مسؤولي إعمار أو من دون إبراز أي وثيقة تثبت هذا المبلغ، وبدأ الناس بتداول هذه المعلومات بناء على ثقة عمياء لا جدال فيها بمن نشر هذه الأرقام، ثم جاء خبر على موقع مسبار يقول إن الشركة قدمت العرض من دون مقابل مالي كدعاية.

(خبر مسبار في الرابط التالي)

https://misbar.com/factcheck/2020/09/10/%D9%84%D9%85-%D9%8A%D9%83%D9%84%D9%81-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B9%D9%84%D8%A7%D9%86-%D8%B9%D9%86-%D8%AC%D9%86%D8%B3-%D9%85%D9%88%D9%84%D9%88%D8%AF-%D8%A3%D9%86%D8%B3-%D9%88%D8%A3%D8%B5%D8%A7%D9%84%D8%A9-95-%D8%A3%D9%84%D9%81-%D8%AF%D9%88%D9%84%D8%A7%D8%B1

الانترنت اليوم بات في متناول الجميع، وصار بمقدور أي شخص أن يفتح حسابا خاصا على إحدى منصات التواصل الاجتماعي ويخرج في بث حي ومباشر يتحدث فيه ويقول ما يحلو له ويفعل ما بدا له، فقد انتشرت فيديوهات بلغات كثيرة تنوعت بين تعليم لغات وطبخ وخياطة وماكياج وتصفيف شعر وأمور علمية وكيفية صناعة مواد معينة في المنزل وصولا إلى فيديوهات أبطالها أشخاص يتحدثون في شؤون مختلفة ويقولون آراءهم ويعلقون على قضايا هنا وهناك.

السوريون أتقنوا لعبة الانترنت منذ أن بدأ الحراك الشعبي داخل سوريا عام 2011 حيث أنهم في تلك الفترة كانوا مصدرا وحيدا للأخبار الآتية من داخل البلاد في ظل تعتيم إعلامي كامل من نظام الحكم ومنع صارم لإعلاميين مستقلين من متابعة ما يحدث عن كثب ومن نقل الحقيقة. 

وعندما تشتتوا في أرض الله الواسعة وجد كثير منهم في وسائل التواصل الاجتماعي الحبل الذي يربطهم بأصدقائهم ومعارفهم وأهاليهم. بعضهم عمل بسرعة على الاندماج في البلد التي استقر فيها وتعلم لغتها وأكمل دراسته أو وجد عملا يكسب منه رزقه بمن فيهم أشخاص لهم حسابات على يوتيوب يقدمون فيها مثلا طرق طبخ أكلات سورية شهيرة، وهؤلاء انشغلوا فعلا بحياتهم الجديدة. والبعض الآخر ربما لم يتمكن من فهم البيئة المحيطة الغريبة عنه ولم يستطع أن يحقق وجودا ماديا فأخذ يبحث عن فرصة لإثبات الوجود بمختلف الوسائل ولم يجد سوى فيسبوك ويوتيوب كي يحاول تحقيق شهرة ولو كانت تستند إلى كلام فارغ أو تافه أو معيب بالمعايير الاجتماعية المتعارف عليها، وإن كانت تتخذ شكل صحافة صفراء تعتمد على فضح الآخرين والخوض في سمعتهم وخصوصياتهم. 

هناك من اعتمد على طرق شعبوية تخاطب نوعيات من الناس لا معرفة لديها ولا اطلاع ولم تقرأ في  حياتها كتابا كي يتلاعب بمشاعرها ويؤجج في نفوسهم غضبا أساسه غير مفهوم ويحشو رؤوسهم بمعلومات لا تستند إلى أدلة، وهناك من اعتمد على تحريك الغرائز الدنيا لدى أناس يعيشون الكبت الجنسي في أسوأ أشكاله، وهناك من صار يعتمد على كوميديا مضحكة أحيانا تكون لطيفة وممتعة وأحيانا كثيرة تكون تهريجا مبتذلا، وهناك أشكال أخرى كثيرة.

جميع هذه النوعيات وما يشبهها منها ما لم يسمع بصاحبها أحد ومنها ما حقق شهرة نسبية ومنها ما حقق شهرة كبيرة وهم قلة. وهؤلاء الذين حققوا شهرة جاءت شهرتهم من ارتفاع أعداد متابعيهم وبالتالي ارتفعت عائداتهم المالية تبعا لتلك الأعداد. وعندما يكون صاحب البث تافها مثلا وعدد متابعيه كبير فربما من الخطأ توجيه اللوم إليه بقدر ما يلام من يتابعه. في كل مرة يضغط أحدنا زر المشاهدة لأحد الفيديوهات يكون ممولا ماليا لصاحب الفيديو. تماما مثل أولئك الذين شكلوا سلاح الجريمة للقاتل في الفيلم المذكور أعلاه.

المستوى المعرفي السطحي المنتشر لدى شرائح كبيرة في مجتمعات الشرق الأوسط لم يبدأ الآن فهو نتيجة عملية تجهيل مستمرة ساهمت فيها حكومات ووزارات تربية وتعليم عالي ووزارات إعلام، وشركات إنتاج أفلام ومسلسلات، وتلفزيونات وإذاعات وشركات إنتاج أغاني مصورة، ساعدهم فيها جمود أساليب تقديم المعرفة المفيدة وعدم جاذبيتها وكذلك لا مبالاة شديدة من الأهل والمربين. وهناك برامج كثيرة تذاع في الإذاعة أو تعرض على شاشات التلفزة مليئة بالتفاهة واللاجدوى تجد اهتماما من عدد كبير من الجمهور يلهث أصحاب الإعلانات لإغرائهم بشراء ممنتجاتهم من خلال إعلاناتهم التجارية ضمن هذه البرامج وهكذا تحقق هذه البرامج المال، شريان الحياة في العصر الحالي، وما يهتم به الجميع.

The Eight Best Types of Social Media for Advertising

والغريب أنه على رغم الانتشار الواسع للانترنت في أيدي الصغار والكبار إلا أن هذا لم يشكل حافزا لحامل الموبايل او الآيباد كي يبحث عن أصل أو معنى أي معلومة يصادفها على وسائل التواصل الاجتماعي، وهكذا صار أي شخص يستسهل نشر أخبار كاذبة أو مفبركة، وأي صاحب حساب حتى لو وهمي لا يتورع عن اتهام أحدهم بالفساد أو بالخيانة وهو في هذا الإطار يمكن أن يضع أرقاما وقصصا خيالية كما يحلو له ويجد من يصدقه ويشارك أخباره ثم ينقلها إلى من يقوم بدوره بنقلها ونشرها على نطاق أوسع وهكذا تصبح القصة معتمدة من دون تحقق ويصبح من يحاول تصحيحها شخصا موتورا ويحكم الناس على الشخص المستهدف بالإعدام المعنوي التام.

من المسؤول عن الفوضى التي تنتشر بين أوساط بعض السوريين على وسائل التواصل الاجتماعي؟ بطل الفيلم، أم مروج الفيلم وموزعه، أم الجمهور الذي يتسابق لمتابعة هذا الفيلم؟

هل هناك طريقة فعلية لإعادة الأمور إلى نصابها الحقيقي أم أن الأمور خرجت عن السيطرة؟


ميساء آق بيق

11 أيلول 2020