Wednesday, October 28, 2020

 إلى من يهمه الأمر

بين حرية التعبير وصامويل وتشارلي إيبدو والإسلام، ماذا يحدث؟


قبل الدخول بأفكار مسبقة والتحفز للهجوم على أي فكرة قد لا تتوافق مع ما يراه القارئ، أشير إلى أن التالي ليس درساً أو محاضرة أو تنظيراً، بل خليطاً من قراءة وقائع ومراقبة مجتمعات ومعلومات سابقة ولاحقة ونظرة ليست مرتبطة فقط بالدين، أو مرتبطة من ناحية ثانية بما يريده بعض السياسيين.

دعونا نتحدث...


يا صديقي/صديقتي، قبل أن تتخذ قرارك بالسكن والاستقرار في دولة أوروبية أنت وأبناؤك وباقي عائلتك عليك أن تأخذ في الاعتبار أموراً كثيرة. 

هذه القارة عاشت تاريخاً حافلاً بالأحداث والحروب، عاشت عصور ظلام وعانت من سيطرة الكنيسة على الفكر ومحاكم تفتيش قاسية وخاضت تجارب حكومات ديكتاتورية ودخلت حروبا دينية ثم اقتصادية ثم سياسية، دفعت خلالها الباهظ من الأثمان. ولا تزال ويلات وأهوال الحرب العالمية الثانية حاضرة في أذهان كثيرين.

قبل أن تستقر بين هؤلاء الناس عليك أن تعرف أنهم قرروا التوقف عن اللجوء إلى العنف أو القتل أو سفك الدماء فيما بينهم، كثير منهم يعتنون بحيوانات أليفة مختلفة وخصوصا منها الكلاب ويعاملونها كأحد أفراد العائلة، هؤلاء ألغوا عقوبة الإعدام من قوانينهم، لا يقتلون حتى الحشرات، وبعض بلدانهم لا تشهد معارك بين الشرطة وبين شرائح من الشعب حيث سادت إرادة القانون. 

الصورة من ويكيبيديا


عليك أن تفكر جيدا، أنت أيضا أيها الموجود في دولة عربية لا تستطيع أن تكتب حرفا واحدا في أي مكان ضد سياسات حكومتها أو مسؤوليها، بأن أوروبا اليوم لا تحمل نفس عقلية أوروبا الاستعمارية التي قررت حضرتك أن تملأ صفحات وسائل التواصل الاجتماعي بها. (ربما لم تنته فكرة الاستعمار ضمنيا لكن الشكل القديم انتهى) عليك أن تعرف أن زمرة السياسيين في الدول الأوروبية وحساباتهم لا علاقة لها بالنسبة الكبرى من شعوب دولهم. السياسيون دائما حساباتهم مختلفة، خصوصا فيما يتعلق بالانتخابات والاستراتيجيات الخارجية. من الناحية الداخلية هم استطاعوا وضع نظام اجتماعي معين خففوا من خلاله نسبة البطالة إلى حد ما وأعطوا الأفراد تأمينا صحيا وتقاعديا يحفظ كرامتهم نسبيا، وأرسوا قواعد منظومة فكرية خاصة بهم تتعلق بحرية التعبير في أي شيء مع احترام الرأي المخالف. فصلوا الدين عن الدولة منذ زمن طويل ولم يعد الدين فكرة جامعة مسيطرة.

الصورة عن موقع مجلة المجتمع


عليك أن تعرف أن استقرارك في دولة أوروبية لا يعني بالضرورة أن تندمج مع سكانها إلى حد الذوبان حتى تصبح مثلهم ولكن أيضا لا يعني أن تعيش في قوقعة مغلقة تقفلها عليك وتمتنع عن محاولة فهم المجتمع الذي تعيش فيه أوالمدرسة التي يتعلم فيها أبناؤك وطريقة الحياة والتعامل الموجودة في البلد. هذه الدول أعطتك حرية كاملة كي تمارس شعائر دينك كما تشاء وأن ترتاد المسجد وأن تصوم وأن تدفع زكاة أموالك إلى جمعيات خيرية إسلامية وأن تختلط بالمجموعات البشرية التي تناسبك، ولكنها بالمقابل تطلب منك احترام ثقافتها التي بنتها خلال عشرات السنين، وعلينا جميعا أن نكون حذرين كي لا ندفع بالأوربيين لممارسة ما فعلوه في القرن الماضي ضد اليهود وكانت نتائجه كارثية على الجميع، وعلينا أن نتأكد أن ما حدث لليهود في القرن الماضي نتج عنه دولة جمعتهم، في حين أن المسلمين الموجودين في أوروبا لن يكون لهم ملجأ يأووا إليه في حال قامت الشعوب ضدهم. 

علينا أن نضع في الاعتبار أن ظروف السجن القسري المترتب عن مرض كورونا وإغلاق مجالات الترفيه التي كانت تخفف من الضغوط اليومية قد تتحول إلى عدائية إذا بدأت لن تتوقف، ولنتذكر أن الغربي ليس كالشرقي في التعامل مع الخلاف، الغربي إذا وصل إلى مرحلة العنف لا تحل المشكلة جلسة صلح كما يفعل أهل الشرق. فالحذر الحذر.  

في المقابل إن معلما في مدرسة إعدادية أو ثانوية يفترض أنه متخصص في مادتي التاريخ والجغرافيا عليه حتما أن يكون أكثر اطلاعا على ثقافات الشعوب، وكان يتوجب عليه أن يكون أكثر حذرا في اختيار أدواته التوضيحية في درسه عن حرية التعبير. المعلم كان غبيا، وقاتله كان جاهلا أخرق مجرما لم يتلق تربية صحيحة.

أما السياسي، ماكرون، الساعي للبقاء في السلطة، فقد لا يهمه أن يثير غضب عدد كبير من حاملي الجنسية الفرنسية والمقيمين في بلاده المنتمين إلى الديانة الإسلامية، هو يمكن أن يلقي تصريحات عشوائية من دون احترام وبلا مبالاة لمشاعر المسلمين.

ليس ماكرون هو الأول الذي يلقي تصريحات فيها ازدراء للديانة الإسلامية، هناك سياسيون سبق وفعلوا ذلك، غير أن الفرق هو في حالة المسلمين اليوم، حال هو الأسوأ منذ أكثر من أربعة  عشر قرنا.

المسلمون وهم الأمة الأضعف حاليا في جميع أنحاء العالم كأمة تنتمي إلى رمز واحد، أدواتهم في الدفاع عن أنفسهم وعن معتقداتهم تتراوح بين الكلام والتجريح والشتم والسب وتأييد العنف وبين حمل سلاح وارتكاب جريمة. جهل واسع بفقه دينهم وقلة معرفة وحكمة في التعامل مع الآخرين في ظل العولمة وانفتاح العالم، وقلة ثقة بالنفس وإحباط متواصل وانعدام المرجعية التي يمكن الاستناد إليها في شؤونهم العامة والفكرية والسياسية.

الصورة من صفحة المسلمون في العالم/فيسبوك


الإسلام ليس في أزمة، والإسلام ليس دين إرهاب، بل عدد من أتباعه، عدد ممن يضعونه علامة على جبينهم، هم الذين يعيشون أزمة نفسية وفكرية وثقافية ومعرفية وتعليمية، وهؤلاء هم من أضاعوا روح الإسلام ومعانيه. والحل الوحيد لهذا الحال هو العودة إلى أول كلمة نزلت في القرآن الكريم: اقرأ. على الأهل تعليم أبنائهم على القراءة والاطلاع. 

وأنت يا من تنتهز كل فرصة يحصل فيها حادث في مكان ما من العالم كي ترفع صوتك معتقدا أنك تفضح الإسلام الذي تريد بأي شكل من الأشكال أن تنقض عليه وتنتقص منه، عليك قبل أن يغشي بصرك تعصبك أو ربما أحيانا حقدك أو كرهك للآخر أن ترى بعين العقل. المجرم مجرم، مهما كان دينه، وتعاليم الأديان السماوية لم تتغير منذ مئات وآلاف السنين، وقد برز استنادا إليها اشخاص عقلاء كرماء حكماء رحماء مبدعين مفكرين، كما ظهر ممن ينتمي إليها أشخاص بعقليات مجنونة أو متطرفة أو مؤذية، وكما في أتباع أي ديانة هناك من أتباع الإسلام أيضا مرتزقة، ينفذون أجندات تملى عليهم مقابل مكافآت معينة.

وأنت يا محارب فيسبوك وتويتر كيف ترى أن الشتم والسب والإهانات والتذكير بماضي أوروبا الاستعماري وتسفيه المعتقدات وتأييد القتل يمكن أن يفيد دينك؟ أو يغير نظرة الغرب إلى معتقداتك؟ أو يساعدهم بتقدير واحترام نبيك؟ ناهيك عن أن المسيحيين المتدينين أصلا لا يعترفون بالدين الإسلامي كدين، في أوروبا يعتبرون الإسلام نادي اجتماعي يضم شريحة من البشر، وأتباعه طائفة معينة لا تختلف عن طوائف تنتشر حول العالم قد تكون أنت نفسك لا تعترف بوجودها. 

كي تنشر صورة جيدة عن دينك عليك أولا أن تدين القتل بكل أشكاله، ولو قرأت وتمعنت في ما جاء في القرآن والحديث لسارعت أنت والآلاف لإدانة القتل الذي حدث تجاه المعلم صامويل في مظاهرات كبيرة واضحة تشير إلى دينك ونبذه للعنف. وكنت تستطيع خلال هذه المظاهرة أن تكتب بلغات أجنبية بعضا من أحاديث الرسول الكريم المليئة بتعليمات المحبة والتسامح والسلام والاحترام والعطف على الضعيف والصغير، وكذلك تستطيع المشاركة في حوارات إعلامية وندوات وتثبت أن ما فعله كل من صحيفة تشارلي إيبدو أو المعلم صامويل لا علاقة له بحرية التعبير، فحرية الإنسان تتوقف عند إمكانية أذى الآخرين أو تسفيههم أو تقليل احترامهم أو احترام رموزهم.

ولنتخيل في هذا الإطار ونحن نقترب من أعياد الميلاد وهي مناسبة يحتفل فيها العالم المسيحي بأسره المتدينون فيه وغير المتدينين، ويذهبون إلى الكنيسة ليلتها ويتلون صلواتهم ويقدسون جميع رموزها، تخيل أن تملأ وسائل إعلام الطرف الآخر أو دروس المدرسة صور ومواد تسخر وتتهكم وتقلل من قيمة هذا الاحتفال وترسم صورا معيبة لكل من يحتفل بهذه المناسبة، هل سيعتبر من يراها من الغربيين أنها حرية تعبير؟ أم احتقار لمعتقداتهم؟

صامويل شخص غبي سقط ضحية جنون مجرم، والمجرم زرعت في رأسه أفكار متطرفة خاطئة منحرفة، والصحيفة التي نشرت الرسوم تافهة وأيضا منحرفة، والإعلام يجب أن لا يتخذ من التهويل والتخويف من الآخر وسيلة لكسب المشاهدين، والمتفاعلون عليهم أن لا يتطرفوا في شرح الأمور.

أرى أن تسمية الأمور بمسمياتها هو الأبسط والأسهل للتخفيف من الغوغائية المنتشرة على وسائل التواصل الاجتماعي بين الناس، ومحاولة للحد من فوضى الأفكار المتضاربة والمتصارعة في حدث فرنسا، وهو ليس حدثا بسيطا ولكنه يمكن أن يتكرر، والأفضل تعلم طريقة احتوائه وامتلاك الأدوات التي تساعد في تخفيف حدة نتائجه

ميساء آق بيق







Thursday, September 17, 2020

"كورونا"، التباعد الاجتماعي


لا تزورني ولا أزورك، لا تلمسني، لا تصافحني، بالتأكيد لا تعانقني أو تقبلني، حافظ على مسافة التباعد متر ونصف المتر، إياك أن تنزع القناع عن وجهك، عقم يديك، تجنب الاختلاط مع الآخرين ما أمكن. باختصار دعنا نتحدث عبر الهاتف أو الشاشة الجامدة. قد أستفيد من هذا الوضع من ناحية ثانية بأني سأوفر المال والجهد لتحضير الضيافة المعتادة من شاي وقهوة وعصائر وطعام وحلويات وغير ذلك.

انتبه إلى أبنائك، ولا تنس أن تحذرهم من خطورة الاقتراب من أقرانهم، أو اللعب معهم والجلوس قريبا منهم وبالتالي ممنوع الهمس في الأذن أو العمل المشترك في تحضير الواجبات الدراسية أو البحوث والمشاريع المطلوبة في المدارس، والأفضل أن لا ترسلهم للتعلم أو لأي مكان مزدحم، دعهم يحاولون التعلم عن بعد. قد أستفيد أيضا من هذا الوضع وأوفر المال والوقت الذي يتطلبه تسجيل الأبناء في نوادي رياضية أو اجتماعية أو معرفية وأتحلل من مسؤولية توصيلهم إلى هذه النوادي وإعادتهم إلى المنزل.



الخيارات الوحيدة المتاحة أمامك كي لا تشعر أنك وحيد في جزيرة منعزلة وتجد نفسك تتحدث إلى كرة مثلما فعل توم هانكس في فيلم "كاست أواي" هي الانترنت ثم الانترنت ثم الانترنت، ستتحول علاقاتك الاجتماعية والعائلية والعملية إلى علاقة عبر الأسلاك. إذا حدث أي طارئ لهذه الأسلاك تحت البحر كما حصل منذ نحو عشرة أعوام وتوقف الانترنت مدة طويلة سيبدأ المرء في التحدث مع نفسه وهناك احتمال أن يصاب البعض بالهستيريا أو الأمراض النفسية.

لا أحاول هنا الاقتراب من التفاصيل الطبية لمرض كورونا، ولا يهمني أن أعرف إذا كان حدث هذا "الفيروس" بالصدفة أو أن أياد خفية زرعته في مكان ما فانتشر كالسرطان. ما يهمني هو ما بات الناس يعيشونه تبعاً لظهور هذا البلاء، خصوصا في الدول التي تتخذ احتياطات عالية المستوى كألمانيا مثلا أو دول أوروبية أخرى، وبالتالي أحاول رسم صورة متخيلة للوضع الاجتماعي في حال استمر الخوف من انتشار الوباء بهذا الشكل سنوات تالية.

                                        الصورة عن موقع "الشرق الأوسط"

ما قبل كورونا ليس كما بعد كورونا، اليوم اكتشفت شركات كثيرة وكبيرة أن بإمكانها الاستغناء عن نصف موظفيها وعامليها على الأقل من دون أن يتأثر العمل. يستطيع أصحاب رأس المال الآن تخفيض رواتب العاملين لديهم إلى النصف. سيوفرون بدلات المواصلات والسفر وتأمين حوادث العمل وستخفف العاملات أو الموظفات من المصروف العالي الذي كن يستهلكنه في شراء ملابس وأحذية ومعاطف كمتطلبات للخروج من المنزل كل يوم، وسينتقل جزء من هذه التكاليف إلى رسوم يتم ضخها في شركات وبرمجيات الانترنت أخذت شكل منصات تواصل واجتماعات وتنفيذ أعمال. أما من فقد عمله فستتضاعف لديه صعوبة العثور على بديل في ظل إعلان كثير من الشركات والمحلات الكبرى إفلاسها، خصوصا بعد أن بات الاعتماد على نصف العدد المطلوب من الموظفين والعاملين كافياً. سيتراجع مستوى المعيشة وسيخف الاستهلاك وسيتم الاستغناء عن خادمات ومربيات كن يأخذن وظيفة الأم، وربما يحاول بعض الرجال أن يتعلموا تصليح الأعطال المنزلية بأنفسهم لتوفير أجرة المتخصصين. وعندما تكمل الدورة الاقتصادية دورتها يكون المجتمع والدولة برمّتهم قد أصبحوا تحت أزمة اقتصادية صعبة لم تتضح صورتها بعد.

                           

                                            الصورة عن موقع "ساينتيفيك أميركان"


حماية الخصوصية صارت من الماضي. أصبحنا في كل مرة نجلس في أي مكان عام أو ننتقل في وسيلة مواصلات مجبرين على تعبئة فورم فيه جميع بياناتنا الخاصة من اسم وعنوان ورقم هاتف وإيميل، لم يعد الأمر اختياريا كما كنا نفعل عند تحميل أحد التطبيقات ونرفض ولوج التطبيق إلى بياناتنا الشخصية، صار الموضوع إجبارياً وأحياناً تحت طائلة العقوبة، وكل ذلك تحت شعار "كورونا".

اجتماعيا، سيبدأ الأشخاص بالتعود على الانعزال وستتراجع فرص الاجتماعات العائلية أو بين الأصدقاء وستتقلص مساحات الضحك والفرح. سيشعر كل إنسان بالخوف من الآخر وسينشأ الأطفال على هذه الثقافة، ويكبرون وهم أقل عطفاً وأقل قدرة على التعبير عن الحب والمحبة، فالملامسة الجسدية حتى لو بتربيت على الكتف أمر في غاية المهمة من الناحية النفسية لتحريك العواطف والمشاعر الحميمة. سيفقد الحب كما نعرفه معناه، وسيتعامل الناس كالآلات مع بعضهم البعض، لكن قبل أن يستقر الوضع على هذا الأمر سيواجه من يعيشون تغييرات وقيود الفترة الحالية بتقلبات في المزاج وربما عدائية في التعامل مع الآخرين.

فنياً، تراجع الإنتاج السينمائي والدرامي والمسرحي واختفت العروض الموسيقية والغنائية والراقصة ولم يعد هناك وجود لمعارض الرسم والتصوير إلا نادراً وعلى نطاق محدود.

حصار، سجن كبير، اكتئاب، فراغ، ضائقة مالية، خوف من الإصابة بالعدوى، ورعب. الرعب الذي نشره هذا الوباء في أنحاء العالم يتجه إلى الخروج عن السيطرة، كلمة "كورونا" أو "كوفيد 19" اليوم هي أكثر الكلمات تداولا في الأحاديث العامة.                                     

لن يستطيع المعارضون لأي أمر بعد اليوم تحقيق تجمعات كبيرة لإطلاق مظاهرات تؤثر على الرأي العام أو الإعلام في قضية سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية. بات الأمر ممنوعاً. تمت السيطرة على الجموع، أحكم أصحاب العروش ورأس المال ورجال الأمن القبضة على تجمعات الشعوب.

                                                الصورة عن موقع "رصيف 22"
                                

قد تبدو هذه الصورة قاتمة جدا، لكن ما يحدث بالفعل ليس مشرقاً إطلاقاً، ومن يجلس على كرسي في حديقة عامة أو مركز المدينة أو محطة قطار أو مطار ويراقب لغة الجسد بين المارة والموجودين، وينظر في وجوههم أو عيونهم خصوصا بعد أن غطى القناع الطبي نصف الوجه وسمح فقط للعينين أن تظهرا، لن يجد ذلك البريق الذي كان يضيء وجوه كثيرين، بل سيجد نظرات التوجس والحذر والترقب والمراقبة للمحيط خشية اختلاط زائد أو احتكاك محتمل، هكذا يصبح الإنسان أقرب إلى آلة.

زمن "كورونا" إلى مزيد من الفردية، وداعاً للشعور الجماعي.


ميساء آق بيق

17/9/2020

Thursday, September 10, 2020

 

كيف يتحول متابع الانترنت إلى سلاح جريمة!

في عام 2008 أنتجت هوليود فيلما بعنوان "Untraceable"/"لا يمكن تعقبه" وهو فيلم تدور قصته حول محققة في إف بي آي (وكالة التحقيق الفيدرالية) تحاول فك لغز جرائم متسلسلة لقاتل ذكي جدا أنشأ موقعا على الانترنت غير قابل للتتبع ليعرض جرائمه عليه.

(دعاية الفيلم في الرابط التالي)

https://www.youtube.com/watch?v=fOagvF01Qho


كيف كان يقتل هذا الشخص ضحاياه، كان يختطف الضحية ويبتكر لها في كل مرة طريقة تعذيب مختلفة تقتلها ببطء أو بسرعة بحسب عدد المشاهدين. وتتعلق آلية التعذيب بعدد مشاهدات الفيلم على الانترنت، فقد ربط هذا القاتل وسيلة التعذيب بعدد المتابعين للجريمة، وكلما ازداد عدد المشاهدين  كلما ارتفعت حدة التعذيب وسرعته وأدت إلى مقتل الضحية.

وعلى الرغم من أن هذا الشخص أعلن صراحة بأن مقتل كل شخص مرتبط برغبة المتابعين في المشاهدة، وعلى رغم تحذير الشرطة والوكالة للناس بأن لا يضغطوا زر المشاهدة على هذه الأفلام كي لا يتحولوا إلى سلاح للجريمة لكن في كل فيديو كان عدد المشاهدين يرتفع أكثر حتى وصل إلى ملايين تسببت متابعتهم في جعل التعذيب أكثر قسوة وأكثر سرعة في القتل.

يظهر القاتل على الهواء في نهاية الفيلم ليقول إنه لم يقتل أحدا، بل إن الناس تهوى التعذيب والمزاج الجمعي يهوى مشاهدة الموت والإثارة في أساليب القتل.

(المعلومات الكاملة عن الفيلم في الرابط التالي)

https://en.wikipedia.org/wiki/Untraceable


تذكرت هذا الفيلم وأنا أتابع ما يحدث على فيسبوك بين السوريين هذه الأيام حول قصة أنس مروة وزوجته الحامل أصالة وحفلة تحديد جنس الجنين التي ختمها برج خليفة في دبي بإضاءة جنس المولود أمام جميع الموجودين ونقلته منشورات الناشطين.

هذا الموضوع لاقى اهتماما ورواجا واسعا بين المتابعين وتنوعت التعليقات بين من رأى في الحدث ابتذالا ومن اعتبر أن أنس حر في ما يفعله ومن حمله مسؤولية إضافية كونه ابن شخص معروف في المعارضة السورية وبين من رأى أن فيديوهات أنس التي وصلت أعداد متابعيها إلى ملايين هي فيديوهات فارغة وتافهة في حين قال البعض إن أنس يمتهن بث الفيديوهات والحفلة هي عبارة عن بزنس يدر عليه أموالا إضافية، وهناك من قال إن المبلغ الذي تم دفعه إلى شركة إعمار المسؤولة عن إدارة برج خليفة هو 95 ألف دولار وهناك من قال إن المبلغ 350 ألف دولار، هكذا من دون الحصول على أي تصريح من مسؤولي إعمار أو من دون إبراز أي وثيقة تثبت هذا المبلغ، وبدأ الناس بتداول هذه المعلومات بناء على ثقة عمياء لا جدال فيها بمن نشر هذه الأرقام، ثم جاء خبر على موقع مسبار يقول إن الشركة قدمت العرض من دون مقابل مالي كدعاية.

(خبر مسبار في الرابط التالي)

https://misbar.com/factcheck/2020/09/10/%D9%84%D9%85-%D9%8A%D9%83%D9%84%D9%81-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B9%D9%84%D8%A7%D9%86-%D8%B9%D9%86-%D8%AC%D9%86%D8%B3-%D9%85%D9%88%D9%84%D9%88%D8%AF-%D8%A3%D9%86%D8%B3-%D9%88%D8%A3%D8%B5%D8%A7%D9%84%D8%A9-95-%D8%A3%D9%84%D9%81-%D8%AF%D9%88%D9%84%D8%A7%D8%B1

الانترنت اليوم بات في متناول الجميع، وصار بمقدور أي شخص أن يفتح حسابا خاصا على إحدى منصات التواصل الاجتماعي ويخرج في بث حي ومباشر يتحدث فيه ويقول ما يحلو له ويفعل ما بدا له، فقد انتشرت فيديوهات بلغات كثيرة تنوعت بين تعليم لغات وطبخ وخياطة وماكياج وتصفيف شعر وأمور علمية وكيفية صناعة مواد معينة في المنزل وصولا إلى فيديوهات أبطالها أشخاص يتحدثون في شؤون مختلفة ويقولون آراءهم ويعلقون على قضايا هنا وهناك.

السوريون أتقنوا لعبة الانترنت منذ أن بدأ الحراك الشعبي داخل سوريا عام 2011 حيث أنهم في تلك الفترة كانوا مصدرا وحيدا للأخبار الآتية من داخل البلاد في ظل تعتيم إعلامي كامل من نظام الحكم ومنع صارم لإعلاميين مستقلين من متابعة ما يحدث عن كثب ومن نقل الحقيقة. 

وعندما تشتتوا في أرض الله الواسعة وجد كثير منهم في وسائل التواصل الاجتماعي الحبل الذي يربطهم بأصدقائهم ومعارفهم وأهاليهم. بعضهم عمل بسرعة على الاندماج في البلد التي استقر فيها وتعلم لغتها وأكمل دراسته أو وجد عملا يكسب منه رزقه بمن فيهم أشخاص لهم حسابات على يوتيوب يقدمون فيها مثلا طرق طبخ أكلات سورية شهيرة، وهؤلاء انشغلوا فعلا بحياتهم الجديدة. والبعض الآخر ربما لم يتمكن من فهم البيئة المحيطة الغريبة عنه ولم يستطع أن يحقق وجودا ماديا فأخذ يبحث عن فرصة لإثبات الوجود بمختلف الوسائل ولم يجد سوى فيسبوك ويوتيوب كي يحاول تحقيق شهرة ولو كانت تستند إلى كلام فارغ أو تافه أو معيب بالمعايير الاجتماعية المتعارف عليها، وإن كانت تتخذ شكل صحافة صفراء تعتمد على فضح الآخرين والخوض في سمعتهم وخصوصياتهم. 

هناك من اعتمد على طرق شعبوية تخاطب نوعيات من الناس لا معرفة لديها ولا اطلاع ولم تقرأ في  حياتها كتابا كي يتلاعب بمشاعرها ويؤجج في نفوسهم غضبا أساسه غير مفهوم ويحشو رؤوسهم بمعلومات لا تستند إلى أدلة، وهناك من اعتمد على تحريك الغرائز الدنيا لدى أناس يعيشون الكبت الجنسي في أسوأ أشكاله، وهناك من صار يعتمد على كوميديا مضحكة أحيانا تكون لطيفة وممتعة وأحيانا كثيرة تكون تهريجا مبتذلا، وهناك أشكال أخرى كثيرة.

جميع هذه النوعيات وما يشبهها منها ما لم يسمع بصاحبها أحد ومنها ما حقق شهرة نسبية ومنها ما حقق شهرة كبيرة وهم قلة. وهؤلاء الذين حققوا شهرة جاءت شهرتهم من ارتفاع أعداد متابعيهم وبالتالي ارتفعت عائداتهم المالية تبعا لتلك الأعداد. وعندما يكون صاحب البث تافها مثلا وعدد متابعيه كبير فربما من الخطأ توجيه اللوم إليه بقدر ما يلام من يتابعه. في كل مرة يضغط أحدنا زر المشاهدة لأحد الفيديوهات يكون ممولا ماليا لصاحب الفيديو. تماما مثل أولئك الذين شكلوا سلاح الجريمة للقاتل في الفيلم المذكور أعلاه.

المستوى المعرفي السطحي المنتشر لدى شرائح كبيرة في مجتمعات الشرق الأوسط لم يبدأ الآن فهو نتيجة عملية تجهيل مستمرة ساهمت فيها حكومات ووزارات تربية وتعليم عالي ووزارات إعلام، وشركات إنتاج أفلام ومسلسلات، وتلفزيونات وإذاعات وشركات إنتاج أغاني مصورة، ساعدهم فيها جمود أساليب تقديم المعرفة المفيدة وعدم جاذبيتها وكذلك لا مبالاة شديدة من الأهل والمربين. وهناك برامج كثيرة تذاع في الإذاعة أو تعرض على شاشات التلفزة مليئة بالتفاهة واللاجدوى تجد اهتماما من عدد كبير من الجمهور يلهث أصحاب الإعلانات لإغرائهم بشراء ممنتجاتهم من خلال إعلاناتهم التجارية ضمن هذه البرامج وهكذا تحقق هذه البرامج المال، شريان الحياة في العصر الحالي، وما يهتم به الجميع.

The Eight Best Types of Social Media for Advertising

والغريب أنه على رغم الانتشار الواسع للانترنت في أيدي الصغار والكبار إلا أن هذا لم يشكل حافزا لحامل الموبايل او الآيباد كي يبحث عن أصل أو معنى أي معلومة يصادفها على وسائل التواصل الاجتماعي، وهكذا صار أي شخص يستسهل نشر أخبار كاذبة أو مفبركة، وأي صاحب حساب حتى لو وهمي لا يتورع عن اتهام أحدهم بالفساد أو بالخيانة وهو في هذا الإطار يمكن أن يضع أرقاما وقصصا خيالية كما يحلو له ويجد من يصدقه ويشارك أخباره ثم ينقلها إلى من يقوم بدوره بنقلها ونشرها على نطاق أوسع وهكذا تصبح القصة معتمدة من دون تحقق ويصبح من يحاول تصحيحها شخصا موتورا ويحكم الناس على الشخص المستهدف بالإعدام المعنوي التام.

من المسؤول عن الفوضى التي تنتشر بين أوساط بعض السوريين على وسائل التواصل الاجتماعي؟ بطل الفيلم، أم مروج الفيلم وموزعه، أم الجمهور الذي يتسابق لمتابعة هذا الفيلم؟

هل هناك طريقة فعلية لإعادة الأمور إلى نصابها الحقيقي أم أن الأمور خرجت عن السيطرة؟


ميساء آق بيق

11 أيلول 2020