في الذكرى الثانية لرحيل والدي رحمه الله، أنشر كلمات كتبها وهو على فراش المرض، قبل أن يودعنا بأيام.
معركة إيران في بلاد الشام
لحكمة أرادها الله اعتنق أهل فارس الإسلام
عقب الفتح الإسلامي قبل نحو خمسة عشر قرنا.
لم يكن في ذلك الوقت مذاهب سوى ما ورد في
القرآن الكريم وسنة نبيه عليه أفضل الصلاة والسلام، إضافة إلى أقوال وأفعال
الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وأصحاب الرسول الأخيار الذين نهلوا من رحيق فكره
النيّر.
تطورت الأمور فاستغل بعض من لم يدخل الإيمان
الصحيح قلوبهم من أهل فارس المجوسية أصلا، القومية فرعا، استغلوا ما سببه استشهاد
الحسين فأحدثوا شرخا في المجتمع الإسلامي لا تزال آثاره تفعل فعلها المدمر حتى
الوقت الحاضر.
كان الحسين بن علي رضي الله عنه قد تزوج
أميرة فارسية، وكان الفرس يحلمون بأن ينجب منها ولدا أرادوا له الخلافة بعد والده،
ولأن النسب عندهم يعود إلى الأم فإن زعامة العالم الإسلامي كانت ستؤول إلى الفرس
بغطاء إسلامي يخفي المجوسية. لهذا فإن بكاءهم على الحسين لا يعود لفقدانهم حفيدا
من أحفاد الرسول الكريم وإنما لأنهم خسروا حلما بأن يعود ملك كسرى إليهم بثوب
جديد. وهكذا نشأت فرقة الشيعة الإمامية وبقيت حتى يومنا هذا وبقي البكاء والعويل
واللطم وإدماء الصدور والظهور حتى العصر الحديث للأسف الشديد.
وكما أن الندب والعويل لم يتوقف إلى الآن
كذلك لم تتوقف أطماع الفرس باستعادة أمجادهم الزائلة واستعادة قوتهم وجبروتهم
وبناء امبراطورية ترث مملكتهم الغابرة التي كانت تتقاسم العالم مع الرومان.
عندما كانت فارس الأكاسرة تسيطر على نصف
العالم القديم كانت بلاد الشام مرتعا لمعاركها مع منافسيها الرومان الذين كان أهل
مكة يتعاطفون معهم باعتبارهم أهل كتاب. بعد ذلك انتشر الإسلام على حساب دولتي
الروم والفرس وقضي على فارس المجوسية التي ولدت لنا بعد ذلك المذهب الشيعي
وتفرعاته. وعندما نشأت دولة الفاطميين الاسماعيلية في شمال افريقيا ومصر لم يكن
هدفها نشر الإسلام وإنما نشر المذهب والقضاء على الدولة العباسية رغم ضعفها، فخاضت
معارك طاحنة مع العباسيين وأتباعهم كان مسرحها بلاد الشام التي تمزقت قبائلها
العربية الأصيلة بين الدولتين، والتي أنهكها صراع دام استمر أكثر من مئة عام حتى
مجيء الصليبيين الفرنجة إلى المنطقة. لكن ما لا يعرفه كثيرون هو أن أهل بلاد الشام
وخاصة دمشق وحلب لم يستسلموا للفاطميين، بل قاوموا ببسالة وصبر واخترعوا نظام
"الأحداث" وأحكموا السيطرة على المدن والأرياف طوال حكم الفاطميين..
بعد ذلك توحدت بلاد الشام ضد الصليبيين
وحاربتهم بمعونة المسلمين من الأتراك السلاجقة وأتباعهم من الأتابك والأكراد
بقيادة صلاح الدين الأيوبي حتى طردوهم من البلاد وطردوا معهم الفاطميين وخلصوا مصر
من (الإله) الحاكم بأمر الله الفاطمي وأتباعه وعادت البلاد واحة عربية إسلامية
أصيلة حتى العصر الحديث.
ولأسباب لا تزال أسرارها بحاجة لاستقصاء
وتحليل، استلمت حكم سوريا الحالية أسرة تنتمي إلى طائفة صغيرة لا يتجاوز تعدادها
نسبة 7 إلى 8 بالمئة من عدد السكان الأصلي، وكعادة أهل سوريا بالتسامح لم يثوروا
ضد حافظ الأسد الذي قلب الجيش وجعله طائفيا بعد أن كان وطنيا..
أما الآن وقد اندلعت ثورة بشكل عفوي وبلا
قيادة منظورة وقادرة، فقد تدخلت إيران الفارسية ووقفت إلى جانب النظام الذي يعتمد
على ولاء الأسرة ومن وراءها بصورة مباشرة، وعلى ولاء بعض أبناء الطائفة التي تنتمي
إليها الأسرة. نظام استخدم جيش البلاد الذي بناه الشعب السوري بعرق جبينه وجهده
وبالضرائب التي دفعها طوال ستين عاما، ضد الشعب الذي موله واشترى أسلحته من دمه
وماله.
أرسلت إيران بسرعة ميليشيات حزب الله لدعم
النظام كخطوة أولى لإنقاذه من السقوط، ثم ألحقتها بميليشات من شيعة العراق وبعض
المتطوعين من شيعة اليمن وأفغانستان وغيرها، وتاليا أرسلت الخبراء والقادة وبعض
أفراد النخبة من الحرس الثوري الإيراني لمحاربة الشعب السوري الثائر.. وما لبثت أن
قدمت للنظام مساعدات مالية ونقدية وغذائية ودوائية وبترولية ناهيك عن أسلحة فتاكة.
هكذا قلبت إيران الصراع في سوريا من مطالبة
قطاعات واسعة من الشعب للحرية والديمقراطية والعدالة والتعددية السياسية إلى حرب
طائفية بكل معنى الكلمة، فما كان من الحركات "الإسلامية" المتطرفة إلا
أن استغلت الأحداث فتشكلت تنظيمات متشددة مثل داعش والنصرة وحركات داخلية سورية
مستقلة متعصبة دينيا لمجابهة تطرف النظام وإيران وأتباعهما.
الواضح لكل بصيرة أن طهران تعمل للسيطرة على
العراق وسوريا ولبنان، ولها مرتكزات قوية في العراق ولبنان ولديها نظام متهاو في
سوريا، وهي على هذه الخطى التي تسير فيها تهدف للسيطرة على بلاد الشام توطئة
لابتلاع الأردن وتهديد ينابيع النفط في الخليج، يعزز وجودها بؤرها على حدود
الجزيرة العربية في البحرين واليمن. غير أن ما غاب عن بال إيران
"المجوسية" التي تتحالف مع نظام قتل من شعبه مئات الآلاف ودمر ملايين
المنازل وشرد ملايين السكان أن هذا شعب لن يستسلم للنفوذ الإيراني المجرم، وسيبقى
بإذن الله صامدا في وجه هذا الهجوم الكاسح المدمر.
إن عالم فارس يتناقض كليا مع العالم الحر في
طريقة التفكير والمعتقد والسياسة المبنية على العنف والبطش وإلغاء الآخر والإبادة.
إذ كيف يمكن لإيران الحالية أن تكون إسلامية والرسول (ص) أرسل رحمة للعالمين
وليتمم مكارم الأخلاق، وهو الذي حض على الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، وكل هذا
يتناقض مع ما تمارسه إيران من دعم للقتل والتعذيب والتدمير والتهجير.
وإذا كانت المملكة العربية السعودية وأمريكا
وأوروبا وأصدقاء سوريا على علم ودراية بهذا الأمر، إلا أن هناك قوة مناقضة لكلا
الاتجاهين وهي تخطط لاستمرار الصراع في المنطقة، ألا وهي إسرائيل التي تعتبر
الشعوب العربية الأصيلة عدوا لها، وكذلك إيران ذات الطموحات والأطماع والتي تحتم
مصلحتها استمرار الصراع بين قوتين كبيرتين.
أمريكا باعتبارها القوة الأعظم في العالم
برهنت في أكثر من مناسبة على أنها تستطيع مجابهة الاتحاد السوفياتي السابق وروسيا
والصين الحاليتين، ولكنها غير قادرة على مجابهة إسرائيل، لما لهذه الدويلة من نفوذ
داخلي على مراكز صنع القرار في واشنطن. ولما كانت قوة إيران لا يستهان بها فكان لا
بد للثورة السورية من حلفاء تقف إلى جانبها، إذ إنها لا تقاتل دفاعا عن وجود نحو
عشرين مليون نسمة فحسب، بل تدافع عن العالم الحر في شرق المتوسط، وعلى ذلك
فالمطلوب وبشكل عاجل من العالم الغربي أن يتوحد تحت قيادة أمريكا لمجابهة هذا
العدو المتجبر، والمطلوب من كل من الأردن ومصر ودول الخليج أن تقف موقفا واحدا من
الثورة السورية وتدعمها بالمال والسلاح الفعال والمشورة، والمطلوب من الثورة
السورية أن توحد صفوفها وقياداتها تحت شعارات الحرية والديمقراطية وضمان حقوق
الإنسان وإنشاء دولة دستورية تضمن حرية الرأي والحياة الكريمة لكل أبناء الشعب
بكافة مكوناته من أعراق وطوائف ضمن حدود القانون..
والمطلوب من إسرائيل أن تتخلى عن أحلامها في
السيطرة على المنطقة وتقبل بدولة ذات حدود، ويمكن حينها إذا حسنت نيتها أن تعيش
بصداقة ووئام ضمن المحيط العربي..
لقد حملت شعوب بلاد الشام رسالة الرحمة
والخلق القويم والشورى آلاف السنين، وستبقى مدافعة عنها إلى يوم الدين بإذن الله.
إن إيران المجوسية تركب الحصان الخاسر، وكما
صمد هذا الشعب بوجه الفاطميين أكثر من مئة عام، فلتعلم أنه نفسه من سيحاربها أكثر
من مئة عام، ولن يتخلى عن مبادئه السامية..
والله من وراء القصد..
محمد بن جميل آق بيق
قاضي سابق