الفرق بين ديغول والحكام العرب
كان ذلك بعد المظاهرات التي عَمَّت شوارع باريس وبعض فرنسا، في ما سُمي يومَها "أحداث مايو/أَيار1968".
وفي 24 من ذلك الأَيّار، أعلن رئيس الجمهورية الجنرال شارل ديغول إجراء استفتاءٍ في الشهر التالي حول إصلاحات جامعية واجتماعية واقتصادية.
في الثلاثين من الشهر نفسه عاد فأَجّل موعد الاستفتاء بناءً على اقتراح رئيس وزرائه جورج بومبيدو، لمصادفة الفترة مع الانتخابات النيابية المقبلة.
وجرت الانتخابات وتتالت الانهماكات السياسية، إلى أن عَيَّنَ الجنرال ديغول موعد الاستفتاء في 27 أبريل/نيسان 1969، حول إصلاحات في مجلس النواب وبعض التشريعات الأُخرى، وَفْقاً للمادة الحادية عشرة من الدستور الفرنسي.
وصرّح ديغول أنه، إن لمْ يَنَلْ موافقة الأكثرية من الشعب، سيستقيلُ من منصِبِه.
ظنَّ الكثيرون يومها أنّ ديغول، بتصريحه ذاك، يلتَمِس العاطفة الشعبية لقبول اقتراحاته الإصلاحية من الشعب الذي كان يرى في ديغول مُنقِذَ فرنسا، وباني فرنسا الحديثة، ومؤسسَ الجمهورية الخامسة فيها.
في اليوم التالي، 28 أبريل/نيسان، كانت نتيجة الاستفتاء: 52،41% قالوا "لا" ، و47،59% قالوا "نعم" .
حبسَت فرنسا أنفاسَها لترى ما سيكون قرار مُنقِذ فرنسا شارل ديغول.
وبعد عشر دقائق من منتصف الليل، صدَرَ عن "كولومبيه لي دوزيغليز" بيانٌ موجَزٌ من سطرين، سمعَهُ الفرنسيون والعالم، جاء فيه حرفيـــــاً:-
"أُعلِنُ توَقُّفي عن مُمارسة مهامي رئيساً للجمهورية. يصبحُ هذا القرار نافذاً عند ظهر اليوم: 29 أبريل/نيسان 1969"...
كان ذلك صوتَ الجنرال شارل ديغول.
وسادَ صمتٌ وَوُجومٌ في فرنســـا والعالــــــم.
لم يبك الشعب ولم يخرج إلى الشوارع يستعطف الرئيس كي يبقى، ولا غير ديغول رأيه قائلا إنه سيبقى تلبية لمطالب شريحة من الشعب، لم يكن في الأمر خداع أو عواطف، فقط قالت صناديق الاقتراع كلمتها وانتهى الأمر.
تولّى مَهامّ الرئاسة بالوكالة رئيسُ مَجلس الشعب آلان بوهير، حيث هيأ لانتخابات رئاسية أوصلت جورج بومبيدو إلى الإيليزية خلفاً لشارل ديغول الذي حَكَمَ فرنسا عَشرَ سنواتٍ ذهبية، ولم يورّث للرئاسة ابناً ولا صهراً ولا فرداً من عائلته أو حزبه أو مناصريه، ولَم يسعَ إلى التجديد ولا إلى التمديــــد.
انسحب الكبير شارل ديغول إلى داره في "كولومبيه لي دوزيغليز"، يُمضي سنته الأخيرة من حياته في سكينةٍ وهدوء.
وتُوُفِّيَ في السنة التالية (مساءً 9 نوفمبر/تشرين الثاني 1970) تاركاً وَصِيَّتَين:
الأُولى ألاّ يحضرَ جنازتَهُ رؤساء ولا وزراء ولا سياسيون،
والأُخرى ألاّ يُحفَرَ على قبره إلاّ ما يلي: "شارل ديغول 1890-1970".
كانت هذه نبذةً عن عظيمٍ من العالم أنقذَ بلاده حتى إذا قالت له بلاده "لا"، انْحنى لِمجد فرنسا وانسحب إلى عُزلته احتراماً لِمشيئة الشعب.
فلو كان الاستفتاء بين مُمثّلي الشعب، لربما كانت اختلفَت النتيجة، لأن مُمثّلي الشعب قد يُدْلون بصوتهم تحت ضَغْطٍ أو قَسْرٍ أو مصلحة، فيَخونُون حاكِماً أو يَطعَنُون حليفاً... لكنّ ديغول كان يَعلَم أنّ مشيئةَ الشعب من مشيئة الله، وأنّ الحاكم العادل هو الذي يَنصاعُ إلى مشيئة الشعب إن كانت مُحِقّةً، وأنه، ببقائه القَسريّ في الحُكْم، يقهر غاصِباً تلك المشيئة!
نسخة منه الى:
كــافة الـــزعمــاء العــرب لأتخــاذ مــا يــلزم وأعلامنــا النتيجة!
نـــزار قبـــاني
وقصيـــــدة "لن أعتزل"
كلما فكرت أن أعتزل السلطة..
ينهاني ضميري..
من ترى يحكم بعدي هؤلاء الطيبين؟
من سيشفي بعدي الأعرج..
والأبرص..
والأعمى..
ومن يحيي عظام الميتين؟
من ترى يخرج من معطفه ضوء القمر؟
من ترى يرسل للناس المطر؟
من ترى يجلدهم تسعين جلدة؟
من ترى يصلبهم فوق الشجر؟
من ترى يرغمهم أن يعيشوا كالبقر؟
ويموتوا كالبقر؟..
كلما فكرت أن أتركهم..
فاضت دموعي كغمــــامة..
وتوكلت على الله..
وقررت أن أركب الشعب..
من الآن الى يوم القيامة..
No comments:
Post a Comment