Wednesday, October 28, 2020

 إلى من يهمه الأمر

بين حرية التعبير وصامويل وتشارلي إيبدو والإسلام، ماذا يحدث؟


قبل الدخول بأفكار مسبقة والتحفز للهجوم على أي فكرة قد لا تتوافق مع ما يراه القارئ، أشير إلى أن التالي ليس درساً أو محاضرة أو تنظيراً، بل خليطاً من قراءة وقائع ومراقبة مجتمعات ومعلومات سابقة ولاحقة ونظرة ليست مرتبطة فقط بالدين، أو مرتبطة من ناحية ثانية بما يريده بعض السياسيين.

دعونا نتحدث...


يا صديقي/صديقتي، قبل أن تتخذ قرارك بالسكن والاستقرار في دولة أوروبية أنت وأبناؤك وباقي عائلتك عليك أن تأخذ في الاعتبار أموراً كثيرة. 

هذه القارة عاشت تاريخاً حافلاً بالأحداث والحروب، عاشت عصور ظلام وعانت من سيطرة الكنيسة على الفكر ومحاكم تفتيش قاسية وخاضت تجارب حكومات ديكتاتورية ودخلت حروبا دينية ثم اقتصادية ثم سياسية، دفعت خلالها الباهظ من الأثمان. ولا تزال ويلات وأهوال الحرب العالمية الثانية حاضرة في أذهان كثيرين.

قبل أن تستقر بين هؤلاء الناس عليك أن تعرف أنهم قرروا التوقف عن اللجوء إلى العنف أو القتل أو سفك الدماء فيما بينهم، كثير منهم يعتنون بحيوانات أليفة مختلفة وخصوصا منها الكلاب ويعاملونها كأحد أفراد العائلة، هؤلاء ألغوا عقوبة الإعدام من قوانينهم، لا يقتلون حتى الحشرات، وبعض بلدانهم لا تشهد معارك بين الشرطة وبين شرائح من الشعب حيث سادت إرادة القانون. 

الصورة من ويكيبيديا


عليك أن تفكر جيدا، أنت أيضا أيها الموجود في دولة عربية لا تستطيع أن تكتب حرفا واحدا في أي مكان ضد سياسات حكومتها أو مسؤوليها، بأن أوروبا اليوم لا تحمل نفس عقلية أوروبا الاستعمارية التي قررت حضرتك أن تملأ صفحات وسائل التواصل الاجتماعي بها. (ربما لم تنته فكرة الاستعمار ضمنيا لكن الشكل القديم انتهى) عليك أن تعرف أن زمرة السياسيين في الدول الأوروبية وحساباتهم لا علاقة لها بالنسبة الكبرى من شعوب دولهم. السياسيون دائما حساباتهم مختلفة، خصوصا فيما يتعلق بالانتخابات والاستراتيجيات الخارجية. من الناحية الداخلية هم استطاعوا وضع نظام اجتماعي معين خففوا من خلاله نسبة البطالة إلى حد ما وأعطوا الأفراد تأمينا صحيا وتقاعديا يحفظ كرامتهم نسبيا، وأرسوا قواعد منظومة فكرية خاصة بهم تتعلق بحرية التعبير في أي شيء مع احترام الرأي المخالف. فصلوا الدين عن الدولة منذ زمن طويل ولم يعد الدين فكرة جامعة مسيطرة.

الصورة عن موقع مجلة المجتمع


عليك أن تعرف أن استقرارك في دولة أوروبية لا يعني بالضرورة أن تندمج مع سكانها إلى حد الذوبان حتى تصبح مثلهم ولكن أيضا لا يعني أن تعيش في قوقعة مغلقة تقفلها عليك وتمتنع عن محاولة فهم المجتمع الذي تعيش فيه أوالمدرسة التي يتعلم فيها أبناؤك وطريقة الحياة والتعامل الموجودة في البلد. هذه الدول أعطتك حرية كاملة كي تمارس شعائر دينك كما تشاء وأن ترتاد المسجد وأن تصوم وأن تدفع زكاة أموالك إلى جمعيات خيرية إسلامية وأن تختلط بالمجموعات البشرية التي تناسبك، ولكنها بالمقابل تطلب منك احترام ثقافتها التي بنتها خلال عشرات السنين، وعلينا جميعا أن نكون حذرين كي لا ندفع بالأوربيين لممارسة ما فعلوه في القرن الماضي ضد اليهود وكانت نتائجه كارثية على الجميع، وعلينا أن نتأكد أن ما حدث لليهود في القرن الماضي نتج عنه دولة جمعتهم، في حين أن المسلمين الموجودين في أوروبا لن يكون لهم ملجأ يأووا إليه في حال قامت الشعوب ضدهم. 

علينا أن نضع في الاعتبار أن ظروف السجن القسري المترتب عن مرض كورونا وإغلاق مجالات الترفيه التي كانت تخفف من الضغوط اليومية قد تتحول إلى عدائية إذا بدأت لن تتوقف، ولنتذكر أن الغربي ليس كالشرقي في التعامل مع الخلاف، الغربي إذا وصل إلى مرحلة العنف لا تحل المشكلة جلسة صلح كما يفعل أهل الشرق. فالحذر الحذر.  

في المقابل إن معلما في مدرسة إعدادية أو ثانوية يفترض أنه متخصص في مادتي التاريخ والجغرافيا عليه حتما أن يكون أكثر اطلاعا على ثقافات الشعوب، وكان يتوجب عليه أن يكون أكثر حذرا في اختيار أدواته التوضيحية في درسه عن حرية التعبير. المعلم كان غبيا، وقاتله كان جاهلا أخرق مجرما لم يتلق تربية صحيحة.

أما السياسي، ماكرون، الساعي للبقاء في السلطة، فقد لا يهمه أن يثير غضب عدد كبير من حاملي الجنسية الفرنسية والمقيمين في بلاده المنتمين إلى الديانة الإسلامية، هو يمكن أن يلقي تصريحات عشوائية من دون احترام وبلا مبالاة لمشاعر المسلمين.

ليس ماكرون هو الأول الذي يلقي تصريحات فيها ازدراء للديانة الإسلامية، هناك سياسيون سبق وفعلوا ذلك، غير أن الفرق هو في حالة المسلمين اليوم، حال هو الأسوأ منذ أكثر من أربعة  عشر قرنا.

المسلمون وهم الأمة الأضعف حاليا في جميع أنحاء العالم كأمة تنتمي إلى رمز واحد، أدواتهم في الدفاع عن أنفسهم وعن معتقداتهم تتراوح بين الكلام والتجريح والشتم والسب وتأييد العنف وبين حمل سلاح وارتكاب جريمة. جهل واسع بفقه دينهم وقلة معرفة وحكمة في التعامل مع الآخرين في ظل العولمة وانفتاح العالم، وقلة ثقة بالنفس وإحباط متواصل وانعدام المرجعية التي يمكن الاستناد إليها في شؤونهم العامة والفكرية والسياسية.

الصورة من صفحة المسلمون في العالم/فيسبوك


الإسلام ليس في أزمة، والإسلام ليس دين إرهاب، بل عدد من أتباعه، عدد ممن يضعونه علامة على جبينهم، هم الذين يعيشون أزمة نفسية وفكرية وثقافية ومعرفية وتعليمية، وهؤلاء هم من أضاعوا روح الإسلام ومعانيه. والحل الوحيد لهذا الحال هو العودة إلى أول كلمة نزلت في القرآن الكريم: اقرأ. على الأهل تعليم أبنائهم على القراءة والاطلاع. 

وأنت يا من تنتهز كل فرصة يحصل فيها حادث في مكان ما من العالم كي ترفع صوتك معتقدا أنك تفضح الإسلام الذي تريد بأي شكل من الأشكال أن تنقض عليه وتنتقص منه، عليك قبل أن يغشي بصرك تعصبك أو ربما أحيانا حقدك أو كرهك للآخر أن ترى بعين العقل. المجرم مجرم، مهما كان دينه، وتعاليم الأديان السماوية لم تتغير منذ مئات وآلاف السنين، وقد برز استنادا إليها اشخاص عقلاء كرماء حكماء رحماء مبدعين مفكرين، كما ظهر ممن ينتمي إليها أشخاص بعقليات مجنونة أو متطرفة أو مؤذية، وكما في أتباع أي ديانة هناك من أتباع الإسلام أيضا مرتزقة، ينفذون أجندات تملى عليهم مقابل مكافآت معينة.

وأنت يا محارب فيسبوك وتويتر كيف ترى أن الشتم والسب والإهانات والتذكير بماضي أوروبا الاستعماري وتسفيه المعتقدات وتأييد القتل يمكن أن يفيد دينك؟ أو يغير نظرة الغرب إلى معتقداتك؟ أو يساعدهم بتقدير واحترام نبيك؟ ناهيك عن أن المسيحيين المتدينين أصلا لا يعترفون بالدين الإسلامي كدين، في أوروبا يعتبرون الإسلام نادي اجتماعي يضم شريحة من البشر، وأتباعه طائفة معينة لا تختلف عن طوائف تنتشر حول العالم قد تكون أنت نفسك لا تعترف بوجودها. 

كي تنشر صورة جيدة عن دينك عليك أولا أن تدين القتل بكل أشكاله، ولو قرأت وتمعنت في ما جاء في القرآن والحديث لسارعت أنت والآلاف لإدانة القتل الذي حدث تجاه المعلم صامويل في مظاهرات كبيرة واضحة تشير إلى دينك ونبذه للعنف. وكنت تستطيع خلال هذه المظاهرة أن تكتب بلغات أجنبية بعضا من أحاديث الرسول الكريم المليئة بتعليمات المحبة والتسامح والسلام والاحترام والعطف على الضعيف والصغير، وكذلك تستطيع المشاركة في حوارات إعلامية وندوات وتثبت أن ما فعله كل من صحيفة تشارلي إيبدو أو المعلم صامويل لا علاقة له بحرية التعبير، فحرية الإنسان تتوقف عند إمكانية أذى الآخرين أو تسفيههم أو تقليل احترامهم أو احترام رموزهم.

ولنتخيل في هذا الإطار ونحن نقترب من أعياد الميلاد وهي مناسبة يحتفل فيها العالم المسيحي بأسره المتدينون فيه وغير المتدينين، ويذهبون إلى الكنيسة ليلتها ويتلون صلواتهم ويقدسون جميع رموزها، تخيل أن تملأ وسائل إعلام الطرف الآخر أو دروس المدرسة صور ومواد تسخر وتتهكم وتقلل من قيمة هذا الاحتفال وترسم صورا معيبة لكل من يحتفل بهذه المناسبة، هل سيعتبر من يراها من الغربيين أنها حرية تعبير؟ أم احتقار لمعتقداتهم؟

صامويل شخص غبي سقط ضحية جنون مجرم، والمجرم زرعت في رأسه أفكار متطرفة خاطئة منحرفة، والصحيفة التي نشرت الرسوم تافهة وأيضا منحرفة، والإعلام يجب أن لا يتخذ من التهويل والتخويف من الآخر وسيلة لكسب المشاهدين، والمتفاعلون عليهم أن لا يتطرفوا في شرح الأمور.

أرى أن تسمية الأمور بمسمياتها هو الأبسط والأسهل للتخفيف من الغوغائية المنتشرة على وسائل التواصل الاجتماعي بين الناس، ومحاولة للحد من فوضى الأفكار المتضاربة والمتصارعة في حدث فرنسا، وهو ليس حدثا بسيطا ولكنه يمكن أن يتكرر، والأفضل تعلم طريقة احتوائه وامتلاك الأدوات التي تساعد في تخفيف حدة نتائجه

ميساء آق بيق