Tuesday, July 4, 2017

هل يكرر التاريخ نفسه حقا؟


في مكتبة المنزل بين كتب قديمة وقع نظري على كتاب "في سبيل التاج" للراحل مصطفى لطفي المنفلوطي وهو أحد أهم أدباء أوائل القرن العشرين..
كنت قد قرأت هذا الكتاب في مرحلة الصبا، عندما بدأت أتعلق باللغة العربية ورواياتها، وسحرني أسلوب المنفلوطي الأدبي الذي شابته لغة شعرية تسرق الألباب، ولكني وددت بعد مرور عقود أن أعيد النظر في كتبه. ربما دفعني حنين إلى الماضي وربما أردت أن أعرف لماذا نحتفظ بهذا الكتاب كل هذه السنوات..
لكني لست في وارد الحديث عن المنفلوطي أو كتابه المذكور هنا، لأن ما لفت نظري فعلا هو المقدمة التي كتبها الدكتور رياض قاسم، رئيس قسم اللغة العربية وآدابها في الجامعة اللبنانية. في هذه المقدمة تناول الدكتور قاسم المرحلة التاريخية التي رافقت حياة المنفلوطي، وقد لفت نظري التشابه بين تلك المرحلة في مصر وبين ما يحدث بين السوريين اليوم، وفي كلا المرحلتين قامت ثورة  على الاستبداد سلطت الضوء على تشتت اجتماعي خطير..
من يملك هذا الكتاب يمكنه أن يعود إليه ليقرأ التفاصيل، لكني هنا وددت أن أقتطع بعضا مما جاء في تلك المقدمة وأحداثها للمهتمين..

بدأ الدكتور قاسم بسرد لظروف مرحلة أواخر القرن التاسع عشر عندما كان الخديوي اسماعيل حاكما لمصر، ورغم أن اسماعيل قام بإصلاحات قضائية وتعليمية وزراعية وشهد عهده بناء قناة السويس إلا أن معارضيه عابوا عليه الإنفاق المالي والبذخ المبالغ فيه وميله الشديد لنقل الحياة الأوروبية بحذافيرها إلى مصر، ثم ساء الحال أكثر بعد عزل اسماعيل وتولي ولده توفيق الحكم، فكان أن ولدت تحركات وطنية إصلاحية تندد بالاستبداد وتنادي بالدستور.
عمّ الفساد في الإدارات في عهد توفيق وانتشرت الرشوة وساد نظام السخرة والعبودية فازدادت نقمة الشعب على الحاكم ونشأت ثلاث حركات: واحدة تطالب بحكم دستوري وثانية تزعمها ضباط مصريون طالبوا بالقضاء على سيطرة الأتراك والشركس على الجيش، والثالثة هي نتيجة انصهار الاثنتين المذكورتين في حركة المقاومة الوطنية التي تزعمها الضباط بقيادة أحمد عرابي، هذه الحركة التي تطورت إلى ثورة عارمة لكنها ضعيفة تمت هزيمتها واحتلال الانكليز لمصر بعدها. وبين عامي 1884 و 1904 خضعت مصر ظاهريا لحكم الخديوي وسيطرت على مقدراتها بريطانيا تحت حكم المسمى اللورد كرومر (السير إفلين بارينغ). لكن المقاومة الوطنية عادت لتنمو من جديد فتشكل في عام 1907 حزبان هما الحزب الوطني بقيادة مصطفى كامل، وحزب الأمة بقيادة الإمام محمد عبده.

ما حدث هو أن المصريين "تفرقوا شيعا وأحزابا وانقسموا بشكل ظاهر منذ ما قبل الحرب العالمية الأولى إلى ما بعد نهايتها، وظل بأسهم بينهم شديدا، وظلوا رحماء على الأعداء متباغين بينهم، ولم يتحدوا إلا عند بدء ثورة العام 1919 ولم يدم اتحادهم إلا قليلا، فلقد عاد الخلاف والشقاق فيما بينهم قبل أن تنتهي الثورة، فمنهم من نادى بإسقاط الخديوي أولا، وكان فريق منهم يرفض المفاوضات مع الانجليز قبل الجلاء، وكان منهم من يلوذ بالخديوي أو يهادن الانجليز. ثم انقسم الحزب الوطني على نفسه بعد وفاة زعيمه مصطفى كامل عام 1908 فصار بعض رجاله مؤيدين للخديوي والبعض الآخر على صلة وثيقة بجمعية (تركيا الفتاة)، ولم يلبث حزب الأمة أن انقسم على نفسه كذلك، فأصبحت البلاد لا تدري ما تريد ولا ما يراد لها ولا تجد من يرد إليها رشدها ولا من يمد يده إليها. كثر رؤساؤها وتعددت قادتها، وتنوعت مذاهبهم، واختلفت طرقهم، واستحكمت حلقات البأس بينهم فلم يتفقوا في شأن من شؤون الأمة على شيء إلا على وضع حبل متين في عنقها قد أخذ كل منهم بطرف من طرفيه يجذبه إليه جذبة المستقتل المستميت حتى بح صوتها وضاق صدرها، وهم ينظرون إليها نظرة المداعب اللاعب، ولا أحسب أنهم تاركوها حتى يفرقوا بين الرأس والجسد فراقا لا لقاء بينهما من بعده" /(من كتاب النظرات)
كان الخديوي والانجليز ينظرون إلى هذا الخلاف في الصف الوطني بكثير من الشماتة والسرور، وكل منهما يحاول استغلال الأمر لصالحه.
إضافة إلى ذلك انقسم المجتمع بين مؤيد للجديد ومتمسك بالقديم، بين المحافظة والتفرنج، ودارت معارك عنيفة بين الطرفين على صفحات الجرائد وفي الأحاديث العامة، وكان الناس يطلقون صفة القديم على كل ما يرتبط بالتراث والدين والتقاليد والأعراف، ويعنون بالجديد كل ما دخل على بيئة مصر من الخارج، واتخذ الطرفان أقسى الألفاظ وأعنف الأساليب في مهاجمة الآخر، وشارك الناس كلهم: كتابا وقارئين في هذا الجدل الحاد. وساعد دخول أجناس أخرى إلى مصر إبان الحرب العالمية الأولى في زيادة حدة الصراع، حيث كثر الصخب والعربدة والغوغائية وظهر السماسرة وراج التهريب وكثرت الملاهي ورافق الفجور سخرية من العادات والتقاليد، ونزح كثير من الفلاحين الى المدن فابتلعتهم مصانعها ومتاجرها وفنادقها وأنديتها وسحبت منهم سماحة الريف وعفويته وزاد الاحتفال بالمناسبات الغربية مثل رأس السنة وغيرها، وكان المترفون من الأغنياء يتهافتون على ما تخرج المصانع الاوربية من وسائل الترف حتى غدت توافه الكماليات من ألزم الضروريات، وظهر تفاوت طبقي واضح فازدادت النقمة واتسعت الفروق.
ولم ينج واقع مصر الاجتماعي من أصحاب البدع ومدعي العلم الذين ألصقوا بالدين كثيرا من الزيف والتضليل، فلما هب المصلحون والمفكرون إلى تحرير بلادهم كان همّ أكثرهم الإصلاح الذي ينقي النفوس مما علق بها من وهم وخرافات زادت الجهل تعقيدا وذلك في ظل تراجع التقاليد الإسلامية الأصيلة. وانقسم الناس بين متطرفين من تقليديين يستسلمون استسلاما كاملا للقديم لا يرضون عنه بديلا بصرف النظر عن طبيعة الواقع الجديد وتطوراته وحاجاته، ومندفعين بشكل أعمى لنقل الحضارة الغربية مع إغفال تام للواقع الحضاري لبيئتهم...
(انتهى الاقتباس)

لا شك أن هذا الملخص لا يقدم صورة كاملة للوضع آنذاك لكنه يعطي فكرة عن صراعات مجتمعية طبيعية في فترات التغيير التي ترافقها ثورات من أشكال مختلفة.. ما يمر به المجتمع السوري اليوم من انقسام وخلاف ليس مستغربا وقد فتحت لهم أبواب التعبير بعد عقود من الصمت، ساعد في ذلك انتشار وسائل التواصل الاجتماعي في ظل وجود الشبكة الالكترونية التي دخلت إلى جميع الأجهزة وقربت المسافات بين الناس..
ما يهم من هذه النظرة السريعة هي لفت نظر الشعوب إلى ما مرت به مجتمعات قبلهم عسى أن يستفيدوا من تجاربها ويختصروا أمد الصراعات العبثية. وبرأيي إنه يتعين على الجميع أن يتقبلوا فكرة تطور الزمن والتغيير في أساليب الحياة من دون أن يتخلوا عن روح الدين إذا كانوا ملتزمين دينيا، وأن ينفتحوا على الأفكار الجديدة المفيدة التي يمكن أن تساعد في بناء الإنسان وبالتالي الوطن، وأن يتعالوا عن الخلافات السطحية التي لا تنتج إلا الفوضى والخراب ويلتفتوا إلى ما يجمع بينهم. صحيح أن دولا عالمية وإقليمية تتحكم في مقدرات ما يحدث في بلادنا، غير أنهم قد يستطيعون أن يتحكموا في مجرى السياسة لكنهم لن يستطيعوا أن يتحكموا في عقولنا وتوجهاتنا الفكرية إن أردنا إصلاحا..

كل ما أتمناه هو أن تبدأ أوطاننا في السير على طريق التعاون والبناء والازدهار في ظل عدالة تحقق الاستقرار، بدلا من التشرذم والهدم والمهاترات الكلامية التي تولد العنف وانهيار المجتمعات..
والسلام..

ميساء آق بيق